Admin
Admin
عدد المساهمات : 631
تاريخ التسجيل : 01/12/2009
 | موضوع: صدى الزور البعيد .. الفصل السابع  الإثنين فبراير 20, 2012 1:31 am | |
| صدى الزور البعيد .. الفصل السابع
قبل أن تدخل العلوة، وأنت تعوم في النهر، ستنحرف مع المياه إلى الغرب، فتطل على العلوة الواقعة جانب الضفة اليمنى، وسترى النهر الذي ينعرج جنوبا ماراً بالبلدة. ولدقائق تنسى فيها العوم، تظن نفسك واقفاً على الضفة اليسرى تحدق إلى الضفة الثانية، إلى العلوة والجوبة. ثم ترى سفوحها الشمالية الغربية تميل حتى تصل البطاح التي تفصل البلدة عن قلعة الرحبة. وقد كان النهر في الزمن الأول لا ينعرج جهة الجنوب، يتابع انحرافه الغربي إلى الجدران الجنوبية لجبل قلعة الرحبة. وللحظات تشعر أنك ترى العلوة من الخلف، من الغرب، حتى تستدير مع المياه إلى الجنوب لترسو بعد قليل في جرف الساير تحت البستان.
وصل خليل إلى بيت دلة، وصل سراً وكان الوقـت عصراً. لقد أبحروا صباحا من الدير بعد أن باتوا هناك لقضاء أعمالهم. وكان خليل عندها غائباً في النوم تحت مظلة السفينة في الهواء الطلق، ورمت الدير أضواءً شاحبة عليه، لوحت جسده نفح هواء يرسله أهلها كل ليلة كأدعية من نوافذهم العالية، أدعية استنجاد إلى خضر الياس. وقد تحركت سفينتهم عندما انتهى هجان من جمع أمواله المستدانة من الرحلة الماضية.
وما أن خبرت هدلة بوصول خليل الساير حتى انتفض جسدها، وحفزت تظن أن حسن مختبئ وراء الباب للمفاجأة. لكن هند العلي التي نقلت لها النبأ أكدت أن حسن ليس على ظهر السفينة الراسية، كان خليل وحيداً دون حسن الرحبي. وقد قال خليل، إن رئيس القشلة الذي وعد عبد الله بإخلاء سبيل ابنه، لم يُر طيلة الأسبوع الأخير في عينتاب، سمع بعضهم يقول، إن رئيس القشلة متغيب في الاستانة لأمر هام. فأوضح عبد الله أن حسن سوف يخلى سبيله اليوم أو غداً، حالما يعود رئيس القشلة، لقد وعد أن ابنه سيخرج في أقرب فرصة.
مضى شهر على ذلك، ومن المفروض أن يكون حسن قد عاد الآن، هذا اذا كان الأمر يعود إلى رئيس القشلة. فالمدة كافية لعودة حسن الرحبي. ثم من غير المعقول أن يتغيب رئيس القشلة كل هذه الفترة، كذلك فإن جنود ورجال النظام كانوا يوشكون مغادرة عينتاب إلى جهة الحرب، في أقرب فرصة كما قال خليل، وهذا يعني أن قشلة عينتاب فارغة الآن من الجنود. ولم تكن هدلة لتهدأ لولا الثقة التي كانت تقرأها في وجه عبـد الله أبي محمد. كان يقول لها، إن رئيس القشلة حتى لو تحرك رجال النظام من عينتاب فإنه لن يدع ولدهم يذهب معهم، سيرسله إلى هنا بأي طريقة، غير أن الأمر يتطلب قليلاً من الصبر.
ثم الأخبار التي وصلتها ابان الأيام التالية، أفقدتها الأمل. كانت تأمل كلما تطلع الشمس وكلما تغيب، وتتخيل أن حسن في طريقه إلى العلوة، في طريقه إلى الحارات والدروب، سيصل بعد قليل ليقرع الباب الذي ينتظره. ستسمع خطوات ابنها عند الباب. لقد جاء حسن يا هدلة. لكن الحدث الذي هز هدلة فأفقدها الأمل، كان مرور الأسطول العثماني في النهر، أربع سفن محملة بالجنود والأسلحة، متجهاً الى الحلة لدحر الانكليز، ولدعم القوات العثمانية في مدينة كوت العمارة. وفي إحدى السفن التي رست لساعات عند ضفة النهر، وجد عبد الله الرحبي معرفته القديمة حامد العبد الذي أخبره أن ابنه حسن كان مع الذين توجهوا إلى الشمال، إلى صربيا، شاهده في تجمع اضنه، في القافلة العربية المتأخرة يومين عن القوافل الأخرى.
هدلة الخضر التي أصابها اليأس والغثيان عقب مضي الأسطول العثماني، وما سمعته عن ابنها. قررت أن تغادر العلوة. وإذا كان أحد لا يوافقها على ذلك، فإنها ستمضي مع ابنها جاسر. لن تحتمل كل هذي المصائب. أراد أخوها عايد أن يهدئ من روعها ويطمئنها، فطرح عليها أنه سيذهب بنفسه إلى مكدونيا، للبحث عن حسن والعودة به، لكنها كانت تستعر وتغلي، كانت العلوة وسفحها الممتد إلى الضفة وباتجاه لسان الهواشة، شبح رعب لا يتوانى في الوقوف أمام هدلة ليؤكد لها: محمد راح، وحسن راح، وباكر يا هدلة الدورة على جاسر. وحين ألحّ عليها عايد الخضر البقاء، قالت له وعيناها تغرقان بدموع خائفة: إنّي يا أخوي ما أظل… ما أظل طالما "حربة النجم" جوّاي عند الهواشة تتنفس. فأدرك عايد أن الأمر أكبر مما قدر.
| |
|
