الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الحوايج

هذا الموقع مخصص لاخبار قرية الحوايج التابعة لناحية ذيبان -الميادين -دير الزور
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 صدى الزور البعيد .. الفصل ( 18 )

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 631
تاريخ التسجيل : 01/12/2009

صدى الزور البعيد .. الفصل ( 18 ) Empty
مُساهمةموضوع: صدى الزور البعيد .. الفصل ( 18 )   صدى الزور البعيد .. الفصل ( 18 ) Emptyالجمعة فبراير 24, 2012 4:52 pm

صدى الزور البعيد .. الفصل ( 18 )


على غير العادة، جاؤوا كلهم قبل الظهر، أغلقوا متاجرهم وعلامات الإنذار مطبوعة على سيماهم. وكان البرد قد أدخلهم الى غرفة الديوان الثاني، الى النساء والأولاد، والتفوا حول بعض صامتين، يغلبهم أسى ونظرات قاتمة.
لقد شعروا ان بعدهم عن أسرهم في هذا الوقت الحرج سيزيد الطين بلة، فاجتمعوا في مكان أوحى لهم انه خير الأمكنة الأخرى والتي باتت غير قادرة على حمايتهم، بين الأطفال والصبايا والعلاقات الصغيرة يقضون فترة تصديق الخبر. وان الأمكنة الأخرى والتجمعات في ديوان فرحان انتهت دون قرار، لذا حملوا ان ما يجري هو عليهم كلهم، الصغير والكبير الساذج والحاذق.
فرحان عبد الغني الشاهر دخل الدار مدلهم الوجه مزرق القسمات، وخلفه رهط ينقل خطاه على مدار خطواته المضطربة، وكان الوجل قد سكن في النفوس ومنح للخيال مناوراته السريعة: أين يذهبون اذا ما حدث مكروه، أو ارغام على اقتراف ما لا يقبلوه؟ وطرأت في خيال عبد الله فكرة العودة الى العلوة، على الأقل هي أبعد وآمن. أما مهيدي فقد تأرجح بين السمسم والمواسم المجدبة وقلة البيع والشراء، في خوف الإفلاس والخسارة اذا كان الخبر صحيحاً. ولم لا .. انهم قادمون في طريقهم، وطريقهم نحونا.
رائحة مشروب نومي البصرة كانت تعبق في غرفة القعدة، وكان الدفء يحيي في النفوس تفاؤلاً ممكناً. واتجهت الأنظار الى تدفق متوال خلخل الأمكنة وغيّر مواضع الجلوس، واتخذ الرجال من مصطبة الغرفة مكاناً لهم بينما انتقلت النسوة أبعد مما كنّ عليه، حياءً وانتظاراً لما سينقله الرجال من أخبار وشت وجوههم بها.
ليلة البارحة حلمت بها، وكان وجهها بين عينيّ، والطراوة القرمزية أحيت الحب الأول فقلت: وكم حبك ندي دافىء، البرودة تلفح الوجه! وأنتِ هيئة لمريم، رأيتك ابنة أو حفيدة لها، بشعرك يناوب الريح ويدعو مطر مطر مطر. وحينما أدخل في الحلم ، تسيرين خلفي حياء، تسيرين مع أختك في برد الشتاء والمساء، في طرقات الدير، خلفي، ولا تستيقظان، ولا تدعان فرصة للقاء أخير، فرصة لقاء أخير مع مؤلف الزور البعيد، فتمضيان في طريق يغيب في مطاوي الخيبة، خيبة الحظ المعاكس. وكنتِ تنظرين اليّ دون ان أستدير، كنت خلفي، في القاع وعلامات حب بادية في ظهري ثم في وجهك وأنحاء جسدك مغطى (بالمانطو ) أنت، وقلت: أنت وهي الحياة خالية وحانقة. تمضين في طريقك، طريق مريم، ولا تعرفي تاريخ جداتك المريمات اللواتي كن يسرن خلفي في مساء الشتاء البارد، الهواء يلفح الوجه حتى أدمعت عين فرحان ومسح الانسياب بردن المانطو الأسود. ثم في زمن أسود تساءلتُ: هي تستاهل كل هذا الحب؟ انها وردة فولاذية تمشـي في الدروب والطرقات الزحمة ثم تعبر ممراً ضيقاً، خلفي، وتختفي. ومسح المدامع الباردة عن وجهه بردن المانطو الأسود ثم التفت الى الرجال الذين تقدمهم وقال وهو يسير: ما نقول للنسوان أي شيء، هسع بس نسكت، والله يحلها.
أظن، والاحتمال قوي، ان لرجاء الخضر عينين يمتزج فيهما الأخضر مع البني، ولقد لمحتها البارحة في طرقات الدير، وكان شعرها قد مسته سمرة الضفاف، وراح يشتعل فوق كتفيها تحت أضواء المحلات الساطعة. ومؤكد انها تعلم بما جرى لامها وأم أمها وجداتها السابقات، في هذا الوقت من العام من البرد من الصقيع الذي ينتشر فوق الدير، كان الوقت الذي سارت خلفي حين نزلت من الحافلة، نفس الوقت، لم تمتلك نفسها مريم الفرحان في نفس الوقت، في مساء شتاء أركان الدير، فتململت في غرفة القعدة وجالت بنظراتها الى المدى.
ومضت عينا جاسر الى ثناياها وهي تتململ لتنهض، فرأى العتمة داخل أروقة الثوب، وكادت الفوانيس الضئيلة تفوت عليه فرصة الجلاء والتمييز. وما خفي عنه، تخيله بأنقى مما هو عليه، وعبرت بوابة غرفة القعدة الى الغرفة الصغيرة، وسمع جاسر وقع خطواتها في ممرات الحوش الواسع. بعد ذلك وجد ان الجميع لم يثن على شيء، فانتهز حالة وجودهم في غرفة القعدة وسل نفسه من بينهم دون لفت انتباه، وتبع وقع الخطا حتى اقترب الفتاة، فحدقت به بوله لا تصدق انه أدرك معنى إشارتها، فتراه يقودها الى مكان ما، تمنح له يدها يمضي بها خارج دار فرحان، ربما الى بيت مهيدي وزهية، سيكون المكان هادئا في احدى الغرفتين المتجاورتين، في غرفة نومهما، وحيث لا أحد هناك، فالجميع في غرفة القعدة ذاهل، ينفتح باب غرفة النوم الدافئة بخوف وتوقع مفاجأة.
كل أجرام الزمن تتحرك كما خط لها، كانا وحيدين في غرفة مهيدي وزهية، والباب مغلق، انسدلت ستارة النافذة، قال في نفسه وهو يسمع لهاثها ويرى في عينيها بريق الخلوة الأولى: وكاد خائفة كما أنا خائف... أول مرة لي ولها. ظل واقفاً يرى الى ثياب تطير عن جسدها. ارتفع الثوب الخارجي فارتفعت معه ثيابها الداخلية، ظهرت بطة ساقها بيضاء وهجت في أعماقه يوم أنزلته من نافذة الغرفة الى الحوش المليء بالفيضان، وانتقلت الى سرير تستلقي بدفء وتتلوى فوق شراشف مخرمة بحرير، بأضواء قمر يعبر شقوقا صغيرة في ستارة مسدلة، الطيف المرسل تبدد على صدرها وترنح بخفة حول وسطها، ثم وجد دربه الى أنحاء جسد صاف، جذوع أغصان تلتف بخريف بائس وبزخات ضباب وندى يتشكل أوان الفجر وعند طلوع الشمس. لكنه ظل يجحظ كالمخبول، وفتح فاه استغراب اندهاش، تتلون وتريه الجوانب القصبية فيجد كأنه ينازع في موت مجروح أدمى بطنه وخلق دماراً ألهب ذكرياته وما ظل من خوف في صباح اليوم الذي أعادهم الى منازلهم كالحملان. وراحت الرياح التي هزت البسـاتين والأشجار المواكبة لأحلام نصف الساعة، تردد وحيف الطيور المحلقة وصوت الرنين المتخلف عن تشظي مفاصل مكائن غارقة في العمل، وهمست وهي تقضم بأظافرها ظهره: شكون اللي رجعكم آه؟ وابتدأ يلملم فمه المشتت وتصور كم سترضى هدلة عندما يطلب الزواج من مريم، تحته، فوق السرير في غرفة مهيدي. وهتف بصوت عال: كأنها ليلة الدخـلة يا مريم الله الله! وأدركت مريم إذ أحست بالسكون الذي أهمد جاسر، وبصدمة التوقف، وراحت ترى الى الخمول والكسل، الذي أكمد همة الرجال وأنضى عنهم الرجولة. ولقد استطاع ان يحس رائحة مريم بأقوى خلجات قلبه، ودقت رائحتها في مخيلته رتم ترم رتم ترم فشم رحيقها الداخلي.. ولمس رضاب ساعات مخضبة برائحة شواء، وظن انه نوع من التدني الحيواني والجنس السافل المنسوخ الى صورة شيطانية. اذا دخلا الى الغرفة المنعزلة، وقد استلقى كل منهما على حده، يسترجع حياة البدء في سكون مطلق، يسمعان نديف قلبيهما ند ند ند، ند ند ند ثلاثة لمريم والأخرى لجاسر الذي لوث ما بقي من شفتيه بدماء عاتمة.
خرجت مريم تمسد ثيابها، وتبعها جاسر منهك القوى. وهو يتخيل أن ما كان لم يكن. وتذكر صباح يومه في المتجر عندما سمع أحد معارف سرحان ينقل خبر الكولونيل الفرنسي، ظن أن اسمه "ترلنكة"، وانه على مشارف الدير، سيدخلها بعد محاصرة القشلة الغربية ذلك ان لم تستسلم بنفسها. وقبل ان يدخلا، قبل ان يعانقا الخوف تحت غمائم المساء سمع جاسر وسمعـت مريم صوتاً آتياً من فوق، من الأسطحة المجاورة، فتراجعا يتطلعان الى السماء، وقال الصوت: يا اخوان، يا أهل الدير الكولونيل حاكم الدير ينهيكم.. وغاب الصوت مع الريح. ولم يعرف جاسر كيف اقترب منها، اقترب منها وضمها بقوة، ثم اطبق فمه على فمها ومنعها ان تسمع ما سمعه أهل الدار الذين خرجوا الى فناء الحوش وكانت آذانهم المشنفة تمنعهم من رؤية الظلام والعناق المتبادل، رغم ملاحظة هند لطيفين متعالقين يمتنعان عن الانفصال، وقدرت من ثوبها وشعرها ثم من كلابيته المرفرفة في تيارات الهواء ومن الآهات المكتومة في صدري الشابين، الواقفين بحذاء الرواق الأول، ناحية غرفة هدلة، انهما سرابان تحولا الى شكل إنساني لإخافة أهل الدار.
وسال اللعاب في فم جاسر حينما رشف من نومي البصرة الساخن، وتعرف في لحظة إلهام الى الجانب المظلم من حياته والى امكانية اجتنابه. فقد كان الشيطان يوسوس في رأسه حين قدمت له مريم كأس النومي الساخن، مدت يدها واستطالت بجذعها توصل الكأس الى جاسر. وكانت كمهرة تتمرح تحت ناظريه فانتبه الى متانة ساعدها وهي ترتكز عليه بينما قدمت بيدها النومي، ونقلت لذلك جسدها المستند على ركبتيها وعلى راحة يدها الأخرى، وتخيل انه على ظهرها، يحطها بفخذيه وتنقله تلك النقلة الى خارج غرفة القعدة، الى سرير زهية. وتساءل الجميع في مصدر الصوت الذي سمعه البعض وفهم مقصده على الفور. وارتفعت الأصوات: شكون يصيح؟ هذا من الدرب أم من التكية؟ ربما من التكية.. يروح مع الهواء ويجيء .. وهو من التكية .. اطلعوا نسمع. وخرج الجميع من باب الغرفة الصغيرة، وتجمعوا في الحوش يصيخون السمع، ولعل الصوت يعود ثانية فيفهمون مرامه. وصاحت شاها المطر: البسوا الأحذية لا تبردون. ووجدت مريم نفسها وهي تجمع الأحذية وتخرجها لسكان الدار. وقال الصوت ثانية، جاء مع هبات الريح وتياراته المنسكبة في دوار الفناء، وقال أحدهم: من التكية من التكية. وكانت الكلمات الأولى واضحة: يا أهل الدار. ثم انسحب الصوت وخبا وراء الأسطحـة والمنازل، ثم عاد بعد قليل، وسمعوا ثلاث كلمات: ت..لنك..ه حاكم الدير، وآب الصدى متراجعاً حتى عاد متقطعاً يحمل كلمات تقول: باسم افرنسا .. العقل الذي قابلت جنود .. افرنسا .. الدير. ثم سكن الصوت .
شعرنا في وقت واحد بأجساد النسوة وهي تنتفض، هدلة الأرض مائلة هدلة وهدلة ورحنا نحدق في الوجوه الكالحة ورأينا شاها المطر تقول اربطوه بالحبل لا يفلت اربطوه زين ودقوا الحبل في الحائط لا يحله. وقالت عفراء إنزعي ثوبك يا مريم لنرى كيف يبدو على جاسر. ثم دخلنا معهم الى غرفة القعدة اتقاء أسئلة طرحتها الريح والصقيع.
ثم أشعلوا المصابيح في غرفة القعدة، وجلسوا يتواسون فيما سمعوا، وكانت أخيلة الوجوه ترتطم على مساحة الجدران الغافية، ويبدو ان أنف أحدهم قد استطال كثيراً وارتسم على الحائط كخيمة ممتدة، فتذكر جاسر أنف عبد الغني والذي يشير الى أنك لا تستطيـع إلقاء نفسك في النهر البارد، تركض الى هذيك الشجرة لتحتمي بفنائها من ماء السماء. وهند نفسها، هذه، بعد ان انفتح جسدها أمامه تحت الدرج، ورأى كيف تتلون تحته قبل ان تزعق طلباً للنجدة، هند هذه تملك ذلك الأنف المتطاول على الحائط، وأصبح شعرها يغطي قسماً منه، لذا بدا الآن أقل وضوحاً من الأنف ذاته. ونبهتها شاها المطر قائلة: ابعدي يا هند عن القنديل، لا يحرقك السنا وهباب النار. فابتعدت وهي ترمي الجميع بنظراتها: انها ستجعل الوجوه أكثر إنارة ووضوحاً. ثم استأذن عبد الرحيم يلحق بعفراء وزوجته سعدة، وغفل مهيدي في مكانه وراح عبد الله ينود وهو فوق المصطبة، يحرك أصابع يديه بطريقة العد والإحصاء، كما كان نابليون يحركها في فيلم واترلو، وهكذا أخذ الزبد يسيل من أعلى شاربه الأيمن، ينحدر على صدره وأذيال كم يده المتصالبة مع صدره. ووجد فرحان ان رأسه يتصدع، يخرج عن نطاقه، حتى الطاقية تحت العقال أخذت تشد الرباط، وتمعنت شاها في وجه فرحان فجزعـت من نحوله وشحوبه المفاجئ، فسألت ان كان وجع عارض، فأجابها انه بخير ولا يحتاج الى بابونج أو شيح، تراكم العمل أرهق جسده وأوهم عقله، يحتاج الى راحة تعيده الى نشاطه السابق. واحتقنت ملامح زهية ودارت الهواجس في صدرها: هل سيخسر مهيدي كل ماله، ستبور تجارته؟ هل ستذهب الى العلوة، تعود مع مهيدي الخاسر؟ وراحت الظلال ترتاح على الحائط، تقف بدوائرها المرسومة ثم تدنو من بعضها فتدخل الوجوه في الأعقاب الثقيلة.
في الليل اقترب الرجال من هدلة وشاها المطر ومن سعدة وزهية، والتفوا حول الأجساد المنتصبة، بعد كتم الأصوات، أمضوا الليل بطوله معهن، كلما ينتهون يأوبون الى أول الفكرة. وشرحوا لهن كل آمالهم ومخاوفهم من الأيام المقبلة، الى ان سمعنا نحن الثلاثة، انا وجاسر ومريم، ما يجري في الحوش، وحسبنا ان الأمر قد اقتصر على غرف النوم فقط، كانت مغاطس الحمام الساخن تولد أبخرة الرغبة في متابعة العمل الذي شرعوا فيه منذ الليل. وانتهزنا الغفلة، فخرجنا من الغرف التي ربطنا الآباء فيها، فتحنا الباب، فأطل الحوش أمامنا، تلوح مريم بيدها: اتبعاني. ورحنا نتسلل على رؤوس أصابعنا باتجاه المطبخ بعد ان عبرنا البركة الفارغة وشجرة التوت العارية. وهكذا شعرنا بالنسائم الباردة تطوف على وجوهنا المترقبة، وكانت مريم، عندما اشتركنا معها في كشف ما كشفناه، وانتابنا إحساس بأننا قطعة واحدة، ولحمها من جسدنا فوددنا ان نقطع ربلة ساقها اللينة ونخبئه بين أضلاع صدرنا، لكي نحس بالدماء الساخنة المتدفقة من ساقها وهي تسير ونحن نسير وراءها قطعة واحدة، ساق مريم المقطوعة تلتف حولنا وتنتهي بدمها ولحمها المقطوف أعلى صدرنا وتشخب منها الدماء فتدفئ مساماتنا وموتنا، لذا كانت تنقل خطاها بحذر وتمرس، نحن وراءها، وفجأة رفعت راحة يدها ان: قفا لا تتقدما. عبرنا شجرة التوت العارية من الورق والأغصان ولاح امامنا باب المطبخ مردودا وشرعته موسومة بهيئة رجل أتعبه الإنتظار. وعندما كشفت مريم اللعبة، سرقت النظر الى فجوة باب المطبخ، استدارت الى جهتنا مكفهرة الوجه وهمست بفم معبأ بالرضاب: باغتهم يا جاسر باغتهم .. كلهم جوا بالحمام مع النسوان كلهم مع أمهاتنا. لكن الرجال الذين في المطبخ، سمعوا الهمس وأحسوا بالمباغتة، ففتحوا باب المطبخ وهم يشتمون الثلاثة ورفع فرحان صوته الى مريم قائلاً: يا بنية احشمي نفسك، بين رجلين شكون تسوين، احشمي .. شكون نسيت انك أنثى وبمقدور أي واحد منهم ينزو عليك .. يا مريم الأنثى؟ بلا فضايح ! ابعدي عنهم واجعلي هذا الشيء ينتهي على خير.
وعدنا راكضين الى ان بزغ الفجر، وهربت الظلال الى أعماق الأرض، وبحث كل منا عن غرفة فدخلها ليعيد الى روحه رؤى وآمالاً غير محققة.
في الصبـاح أوصى فرحان انه علينا نسيان الماضي، فنرى الى طبيعة هذا اليوم، نضع الحد بيننا وبينهم، ثم نقوم بأعمالنا على هذا الأساس. اليوم هو يوم اختبار. فسرنا خلف بعض، فتحنا باب الحوش الخارجي، وكنا أول الناس الذين خرجوا الى السوق من ناحية شارعنا، وهتف عبد الرحيم من خلف نافذة داره وسأل: شكون، ما بي منع تجول؟ فرفع فرحان يده: اتبعنا، الحياة تسير طبيعياً. ولم يظهر حتى الآن تغير في ما وصلناه، السوق عند تلك العطفة، ظل هناك، حين نعطف الى الشمال ونضع تكية الراوي خلفنا، مندفع في عمله المعتاد، فأنزلت جفان اللبن عن رأسها المنزوي تحت الثقل واستكانت قليلاً.
الخوف الذي ولد فينا، مع ان أحداً منا لم يظهر ذلك، جعلنا نستطلع طريقنا بأعين جديدة، نحاكي صمت الجدران والدور لعلها تحمل ما غفل عنا يوم أمس، ونحدق في وجوه المارة، نحاول معرفة ما جرى من خلال الملامح والصيغ، ومر بعضهم بنا فألقى علينا السلام، يريد ان يعرف ما نريد ان نعرفه، فتبقى أيدينا مرتفعة تحية له بعد ان نقطعه بمسافة كبيرة. الى ان امتد أمامنا الشارع العام وبقيت تكية الراوي خلفنا، بمئذنتها المائلة، وظهر السوق يموج بالمشترين والأعراب الذين أتوا من وراء النهر يحملون بدالهم من الصوف واللبن والبيض والإبل والخراف الى خان الوسط لبيع وشراء الحيوانات بأنواعها. ودمدم فرحان في أذن مهيدي: الحياة طبيعية ما في شيء. وهز مهيدي رأسه وقال: انشاء الله ما يجري شين علينا وعلى أمة محمد. وأوقد جاسر كانون الفحم خارج متجر سرحان، في الشارع العام، صب الزيت فوق أخشابه ورمى فيه عود الثقاب فارتفعت ناره وانتشر بقربه الدفء. وراح بعض المارة يقفون قليلاً وقد مدوا ايديهم فوق الكانون يأخذون من وهجه، وصاح أعرابي في وجهه بينما استغرق جاسر في جهة ثانية، صاح أعرابي بحنجرة رنانة: آح آح. مغلغلاً يديه في سنا النار المرتفعة. فانتفض جاسر من الرعب ثم التفت اليه قائلاً: شنو آح آح تدفأ واسكت! فرد عليه: وكاد ما انت ديري، عرب من؟! فأجابه : عرب ما أحد، روح بطريقك يابا. وسأله الأعرابي بعد قليل: يقولون الفرنساوي دخل الدير.. ما شفنا خيرهم من شرهم. ورفع جاسر صوته: روح يابا روح بطريقك، شكون لزقة؟ وانحنى جاسر على قطعة خشب أكلت النيران نصفها، ولوح بها أمامه وهو يتوعد: أخرب وجهك ها، امض من هنا. وسمع الأعرابي وهو يرد عليه مبتعداً: عوذا عوذا. فرد جاسر: عوذا من أمك يا جرو. وقال له سرحان: أتركهم يا جاسر، لا تختلط وياهم. فقال جاسر: يريد يسـتروح عندي، فاتح مضافة له ولأمثاله، كبحهم الله. واقترب منه أبو بديع جار سرحان في المتجر، ورفع صوته ضاحكاً ليسمع سرحان أيضاً: هذول الشوايا ما يقدر عليهم غيري، حضرت لهم هالعصايا، كل ما يسأل واحدهم بكم هالفستان.. لزوم منه يشتري، ان ما اشترى أظل أضربه حتى يشتري.. تشوفهم يلزقون، بكم هالقطعة ونريد هذيك الشقفة ونأخذ قياس البنية يمكن أكبر ويمكن أصغر.. يبقون يترددون ويحتارون حتى أظهر لهم العصا، واذا ما اشترى الواحد منهم أطرقهم، وأين اللي يوجعك. ودخل الثلاثة الى متجر سرحان بينما دفن جاسر دلة القهوة المرة في المجمرة المشعة.
بعد الضحى خرج أبو بديع من دكانه المجاور وهمس لسرحان مقترباً: سمعت يا سرحان. فرفع رأسه بالنفي، واستطرد أبو بديع متهولاً: يقولون الفرنساوي أخذ كل دواب خان الوسط، صادر الإبـل والغنم وحتى الحمير. وتساءل جاسر: لا؟! وتابع أبو بديع: إي، شوفوا حركة ما طبيعية في الشارع. ونظرنا الى الطريق الى الساحة ورأس الشارع العام والى حركة المارة التي راحت تخف من البدو والأعراب وسكان الدير.
أشار أبو بديع: بينهم ناس من السنغال ومن المغرب. كجذوع النخيل، وأطرافهم نحيلة وعالية، كأنهم يمشون على مسند إضافي، ملونين كالسودان، تظن واحدهم يطوقك اذا دنا منك، فلا تعرف الى أي جهة تنظر. ومروا بالقرب من دكان سرحان يحملون البنادق، أمسك كل واحد منهم برأس البندقية، ونظر جاسر الى شفة احدهم، أحد الثلاثة، كبيرة ومندلقة، وجرّت كل فمه الى الخارج، وتصور ان فمه شفة تعرت من داخلها، وضرب اليباس أجزاءها الحية، وراح اللعاب المتخثر عليها يملأ الشقوق والثنايا حتى اذا أطبق شفتيه ثم رفعهما بقيت خيوط اللعاب معلقة بين الشفتين، تندفع الى الخارج مع الصوت وتنجذب الى قعر الفم مع الشهيق. وقفوا امام دكان مهيدي يجولون بأعينهم في أركانه. وخفق قلب سرحان وقال بصوت ضعيف: أكيد راح يصادرون نصف السمن، تراهم واقفين يتمتمون بالكمية .. نغلق الدكان يا جاسر أخيّر .
هؤلاء الثلاثة وهم واقفون أمام مهيدي يستطلعون حقق السمن ودنان الراقـود المثبتة في زاوية المتجر، جعلوا مهيدي يحار في كيفية التصرف معهم. ورفع رأسه مرحباً: أهلاً وسهلاً على الرحب والسعة، أطلبوا يا باشا. فلم يردوا عليه، ظلوا يحدقون الى الدنان، متجاهلين أمر البائع. وقال مهيدي: اللي تطلبونه تحت أمركم تفضلوا فوتوا شوفوا بأنفسكم. ووجدهم يقولون: آنتري مسيو. ولكزوه بعقب بندقية ودخلوا الى مخزن المتجر. وافترت ملامح احدهم بعد ان ذاق السمن من ظرف مفتوح، وجه الكلام الى زميله الآخر، قال وكأنه أدرك ما قاله إنه سمن سيفرح له الكولونيل. ثم رآهم يطيلون التملي بالأكياس المتراكمة فوق بعضها، في ناحية المخزن الشمالي، ويسـأل أحدهم: كاسكوسي؟ فرد مهيدي: ها .. نعم؟ وضرب بحربة كانت في وسطه، عرض الكيس، فانسرب منه خيط من السمسم، تناثر على جزمة الجندي الذي شرع بقضم حفنة ملأها سلسبيل الخيط المندفع.ثم قالوا لمهيدي بصوت جهور : افرنسا يشتري منك سمن وسمسم.. وي. فأجابهم بأعين متراقصة: وي.
أغلق محاله وعاد الى دار فرحان، عاد تشده رغبة التحليق والطيران، حكى مع نفسه: أكيد مؤمنين، المؤمن يجي الى المؤمن، كنت محتاراً وخائفاً أين أروح بالسمسم.. الحمد لله، ياخذون السمسم وزود اذا انوجد. وفرك راحتيه بقوة وقال: ربحنا يا أبو توفيق ربحنا يا مهيدي الله يديم السنغال وفرنسا.
في دار فرحان انتظرت زهية مجيء زوجها على أحر من الجمر، قال لها فرحان: لا تهتمي قلنا له امشي معنا.. كان مبسوط ومرتاح.. يمكن خير يا بنتي. وتحدثت مع نفسها: طيب اذا أقفل المتجر من ساعة، أين راح؟ ثم قالت لأبيها باسترسال وعفوية: أكيد هسع بالقشلة وإلا كان رجع.. يابا إسأل عنه. ودخل أثناءها عبد الله وكان قد سمع ما قالته زهية فأجابها بصوت مطمئن: هذاك هو يدرج ورائي.. براس الدربة، شكون زهية خايفة على زوجها من الفرنسيين؟ واستطرد عبد الله: زين هذاك هو جاي، سكن قلبك يا زهية. ودمدم: هذول ما ينخاف عليهم، يطلعون منها مثل ما تطلع الشعرة من العجين، هذا مهيدي يا زهية خذيه على صدرك. ووقف بعرض الباب ورفع صوته بنشوة، قال: أريد فنجان قهوة يطرح الخوف وساعته.
فارتمت عليه، وكانت تشده برغبة أم، واعتقتدنا انه الحب، لقد نسيت جمعنا، وأبيها الذي جعـل يشيح بوجهه عن مريم وهند وشاها المطر. فلا ينظر الى النسوة الذاهلات، واعتراهم الحياء ان تستمر في عناقها وتزيد. فارتطمت به ومرغت أنفه في صدرها، ونثرت على وجهه حسرة رأسها ثم أرسلت جدائلها تحت ياقة زبونه، وتشاددا في مكان واحد، فظنت هدلة انه اجتاز حدود الآداب، فنقلت أقدامها بعجلة وخرجت من الغرفة بينما وقف الآخرون مترددين كيف يتصرفون أمام البنات والأبناء الذين صبروا حتى تأتي المبادرة من أبيهم فرحان، وسمعنا كلمة خرجت من فمها بدون إرادة، سمعنا: شكون؟ واشارة استفهام موجهة الينا، وسددت الصبايا نظراتهن الينا فرأينا جسدها المرن، في المانطو الأسود، طولها العاجي، ثم أخذنا نرمقها من خلف النافذة اليسرى ونسأل : أهي ابنته؟ ابنة صاحبنا.. وكم هي جميلة وعذبة، كنا معه أيام الصبا، نجري خلفها ونغازل التراب ومكان المرور، وجديلتها المرسلة على ظهرها كالفحم، والمانطو المناسب للون الجديلة وجذعها المتين وهي ابنتنا ونحن وراءها دون حياء ووجل ابنتنا بهذا الجسد وبهذا الوجه المراهق المليء بالبثور والرغبة .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alhawwaij.ahlamontada.com
 
صدى الزور البعيد .. الفصل ( 18 )
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 19 )
» صدى الزور البعيد ... الفصل 17
» صدى الزور البعيد .. الفصل 13
» صدى الزور البعيد .. الفصل 12
» صدى الزور البعيد ... الفصل 16

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الحوايج :: الفئة الأولى :: منتدى الادب والثقافة-
انتقل الى: