الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الحوايج

هذا الموقع مخصص لاخبار قرية الحوايج التابعة لناحية ذيبان -الميادين -دير الزور
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 صدى الزور البعيد .. الفصل 12

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 631
تاريخ التسجيل : 01/12/2009

صدى الزور البعيد .. الفصل 12 Empty
مُساهمةموضوع: صدى الزور البعيد .. الفصل 12   صدى الزور البعيد .. الفصل 12 Emptyالثلاثاء فبراير 21, 2012 6:07 pm

صدى الزور البعيد .. الفصل 12

الديوان فتح أبوابه بعد انتهاء الترميم في المدينة، بعد إصلاح الجسر الخشبي، جسر السفن الممتد في الفرع الثاني للنهر. وعادت منافسات لعبة ( الدوملا )، لعبة الشياب كما يطلق عليها فرحان، ذلك لأنـها تستقطب شيب الحي، فينزوون حول اللعبة، غير منتبهين الى الأخرين، مستغرقين في لعبتهم لا يشتت انتباه أحدهم سوى رفة جفن أو ضيق صدر.
وتفترش أرض الديوان الطويل طرحات ومساند جدارية، تفصل بينها النمارق بارتفاع مرفق اليد. وتقوم في وسط الديوان مدفأة فحم، تصعد من أعلاها أنابيب دخان الى زاوية السقف. جانب المدفأة كانون نحاسي للقهوة المرّة، يظل متقداً وبداخله دلّتا قهوة مع فناجين على مصطبته. أيام الشتاء تغلق النوافذ، ويكتفى بالباب الرئيسي فينغلق الباب المجاور للدرج بمتراس ورتاج. وفي المساء يتهافت الضيوف الى الديوان، يمتلئ بعد صلاة المغرب، ومع ان البعض يأتيه بحلول العصر، إلا أن ما يجري فيه بعد الصلاة يمنحه ملاحة السمر. وقبل المساء يضيء سرحان مصباحي كاز معلقين في السقف الى قضيب حديد، وينتظر عودة والده من تكية الراوي، مع من يتبعه في جدل ديني يستمر الى حد دخولهم الدار، فيسمع بعض المحاورات التي فتحها لهم إمام التكية وشيخها، قصص التقوى والحساب، خاتمة الصلاة التي تتسع وتتشعب
وتطول الليالي، فيبقى الديوان مناراً، يسهر على خدمته كل ليلة سرحان وعبد الغني، الى وقت تثاؤب فرحان بجانب الباب مودعاً الزوار. ولا تفوت الشباب ما يقال فيه وما يحتسب من القضايا الهامة. كانت الأخبار والقرارات المستعجلة تنتقل عبر سرحان وعبد الغني الى مجلس النسوة. واذا كان سرحان مواظباً على الخدمة فيه، فإن أخاه عبد الغني لا يتردد في المكوث في مجلس الأسرة، يتخذ في إحدى الزوايا لعبة الكعاب أو الدارة قرميداً: رحلنا نزلنا بداره جديدة يا منقاش الله تكون بهذي النقطة .. ( لعبة الصغار) الذين يتحلقون حول اللعبـة للمشاركة فيها. أو لعبة الحزرات، بينه وبين مريم وعفراء ومن يشترك معه من النسوة الصبايا.
انهم يستلقون جانب بعضهم، وكثيراً ما تجمعهم بطانية وغطاء، ويجدون لذة في ارتطام سيقانهم، يتغطون مستندين الى النمارق الملصقة بالجـدار، فيسأل أحدهم، ما هو الشيء الذي يتطاول في صغره وينتهي في كبره؟ الشيء الذي نهايته كبيرة وبدايته صغيرة؟ طاسة طماسة ببطن البحر غطاسة ..؟ أولها عين وآخرها شين! حتى يناديه سرحان أو ينبعث في نفوسهم الملالة فينحون الى التغيير. كل الأيام كانت هكذا ما عدا الأيام التي يذكرهم فيها فرحان بالعودة الى قراءة ختم ربع ياسين ومولد النبي، وقراءة بعض سور القرآن جماعة.
عبد الغني يمط بوزه، يساعده في تشكيل مقصده أنفه الحاد، لا يمكن لجاسر أبداً أن ينسى يوم النزهة- من منكم يستطيع فعل ما أفعله؟ سأفعل ما يحلو لي .. ولن أقاوم الرغبة .. أبداً. ويطلبون منه: تابع يا غناوي! – ولا تنتهي المهزلة ، يتابع عبد الغني غير آبه لأحد ، وان جاسر سيحمل نفسه على الابتعاد، لكنها تستوقفه، فمن علامات المضي الوقوف والطأطأة. أنت يا جاسر تريد ان تكون كعبد الغني.. ولا تقوى على رمي نفسك في النهر.. في المياه.. أنت! وتشير إليه، أتعمل مثله يا جاسر؟ يجيب جاسر: جاسر لا يعمل كما يعمل، إما لأنه لا يستطيع وإما لأنه لا يريد يا هدلة ...
الى ان كان اليوم الذي دخل عليهم سرحان. دخل عليهم من الباب الرئيسي، منبثقاً. واذا كان جاسر لم يحدد وقت دخوله الـى الديوان، فإنه حدّد الرسالة التي حملها. عرف الرسالة من الجهة البعيدة – وكانت آتية من هناك. فتسمرت الوجوه، استقرت في شبه سكون، جامدة في مآقيها، وجحوظ وندم، أحاسيسهم كانت تأنيب ضمير. ووضع فرحان يده على صدره، فلاحظ سرحان وهو ينقل النبأ أن والده قد توغل في الشيخوخة، توغل قبل الأوان. وانتقل ما قاله سرحان الى الديوان الثاني، ثم الى بقية الغرف.
لقد أمسك الدرك بالهاربين، عند محاولتهم تبديل مكان المخبأ، وعندما لم تقدر الضفاف والقرى، الأراضي الواسعة، على احتضانهم أطول من ذلك. كانوا قد هربوا باتجاه مجرى النهر، ومن على الجسر الخشبي المحطم، جسر السفن الضائعة في فيضان جاء عن طريق الهطول والسماء، كانوا يـدركون ان الـهرب هرب مؤقت. وهَبْ ان أحدهم ضرب فرداً من الجند.... ان الحراب المغروسة في الظهور خائبة، حدّها خوف الأفئدة!
هكذا، ولك عكـروت.. بوشمان، صيح اللي يعمل بالجسر يجون الى هون! وصاح بصوت أجوف: ياللا ولِكْ . ومرة أخرى أشار وإبهامه الى حقوه: ياللا ولك. ياللا ولك.. ما بي غير الساحة.. في ساحة الدير. ويعني لازم يصدر حضرتنا أوامر الى حبل شنق هالكلاب الشيطان اللي خالف التعليمات. الله الله على الغدار الخاين.. إحنا لازم يقرر بكرة في الصبح. أفندم.
وضع سرحان كلتا اليدين، على طرفي الباب المفتوح، وكان الرجال ينظرون اليه مخمنين. وكانوا متأهبين كي يسمعوا منـه.. فصمتوا. ربما كان الوقت مساء، وخمن جاسر أكثر من ذلك.. الليل والمساء والعصر الى نهاية الصباح، كلها نقلت الرسالة التي حملها سرحان، فلم يكن الديوان ممسياً ولا معشياً، كان الديوان في ذلك الوقت ينقل ما قاله سرحان. وتخيل فرحان أنهم سيبدأون التحقيق معهم، حالما يصلون الى القشلة الغربية. قال سرحان، كأنه يلهث، وما زال في الباب: إن المتصرف نصب المشانق في الساحة منذ الآن، قبل وصول المتمردين، يقال ان العقاب سيتم قريبا.
وساد صمت ثقيل في الديوان، مدد فرحان قدمه اليسرى الى أمامه، واستند بيديه على الأرض، ثم أطرق واجماً محنياً. وردد أحدهم: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. وتدخل رجل عجوز ظل يقبض على حصى الدوملا بيده، قال ببحة الكبر: يا أبو سرحان.. نشوف ولد العايد، وكاد عندهم حل، ويؤثرون على المتصرف. فاستدار اليه فرحان دون أن يتكلم، رفع جبهته الى مكان آخر، يتصور كيف يستقبله أولاد العايد.. وأردف ثانٍ: نروح كلنا يا أبو سرحان .. نمشي إليهم عشائرية. فقال فرحان: الموضوع ما ينراد له عشائرية ولا مشية.. اذا كان فيهم دم مسلم يتصرفون رأساً .. وما ظني عندهم هالشي.
اقتحمت الأفكار رأس جاسر الرحبي، كيف يحدث هذا في الدير؟ حين كَسْر السدة، كما رووا له، لم يجازف رجال ابن المضحي في التدخل، بمنع أخيه محمد من كسر سدة الساير، فوقفوا كشاهد على ما حدث، ولم يبددوا طلقة واحدة. والآن، وليس الوقت وقتاً لكسر السدة، يردعون أي محاولة يفكر البعض القيام بها. فالجسر الخشبي يجب ان يقام دون تباطؤ، لأن السرعة في إنجاز العمل تعني تنفيذ الأوامر بدقة ومسؤولية، وان التهاون وعدم الحرص يدل على التخريب والخيانة. وتنصب لأجل ذلك المشانق! لكن الجسر لهم وكانت السدة لبيت الساير، ألهذا السبب إذاً؟ ان الجسر يمتد الى الفرع الثاني للنهر، أما الفرع الأول فيقوم عليه الجسر الحجري الذي لم يهره المطر.
في العلوة لا يوجد جسر على النهر. النهر عريض وواسع، لا يطال ضفتيه جسر حيث لا فرع وسط النهر، فالمياه عندنا واحدة.
لكن الرياح صارت تلعب بهم، تؤرجحهم يمنة ويسرة، حتى كادت الأعين الدامعـة تترك ما تراه مكرهة. وقال في نفسه، انها المشانق يا جاسر، أول مرة ترى هذي الحبال، حبال الموت. في الساحة المشتتة نصبوا ما استطاعوا من الأعمدة والصلبان– تدلوا الى ان الأرض كانت واقفة! وقدر من مكانه ان أحدهم يشبه خاله عايد الخضر، هذاك .. ذو الشاربين المعكوفين، كأنه عايد الخضر، ذو السروال والجلباب الفاحم. لذلك أحال الليل الأشياء الى سواد. والكهربيات المضيئة، عند نهايات الشوارع، وفي الساحة، جعلت الأشباح المترنحة تعود الى زمن عتيق، أطراف الأراضي الخاوية. وهو إذا عاد فلن ينسى ما رأى.. وأضحت الحلقة التي تحيط بالمعدومين ضيقة، خانقة، أزادت الإظلام فمنعت الرؤية. ووجد الوجوه ترتفع الى فوق، تحدق في المكان الذي كانت المشانق فيه.. وأين الصلبان والأعمدة المرتكزة على الساحة المصنوعة من الورق المقوى، المصنوعة من بقايا ما حملته الأمهات والصبايا الرازحات تحت الظلال والجذوع المنسية؟
سنبدأ من الأول، الأول كان منذ يومين.. واليومان حالة من سراب، اذاً متى كان ذلك؟ وأضاف أيضاً، ان الظلام كان مخيماً، لم يستوضح الطبيعة المنسوجة أثناء المساء. كان مع بالآخرين تحت غطاء البطانية، يستشعر المدى الممكن، والى جانبه عبد الغني وراشد وثمة نسوة كثيرات كانت معه. يخيمون للسمر والحزرات الملغومة. غاب عبد الغني في زاوية الغرفة والى جانبه جاسر ثم راشد ولقد تقدمت اليه من الطرف الآخر مريم ثم هند .. وهكذا تشكلت سلسلة كانت عفراء نهايتها وبدايتها، حيث فرض جاسر، وحسب ما رآه. واذا كانت رجاء الخضر تدخل في حلقتهم متهكمة غير منصتة الى ما يقال وغائبة عنهم بطبيعتها غير المكونة بعد، غير شاعرين بها - (كأنها) هي - جاسر عقد في إحدى الفترات مصيره دون شعور وقرار، انه لا يعرف، ان الأيام قادمة، في ثوبها الليموني.. تمر من خلال السجف والأشجار الزحمة.. وبعد ما مضى من السنوات.. يقول / هي / ومن سواها! أشياء كثيرة مرت حتى جاءهم سرحان بالنبأ.
رجاء الخضر تروح وتجيء كطيف. ولقد حسبها هند أيام الوداع، بعينيها الراجفتين وتلويحة يدها وأساور معصمها. يهتز القرط فيحسب انه آت من هناك.. صوته ورنينه وهزة الرأس المصاحبة للرنين البعيد .. وانه اختلاط قادم من أغواره العميقة.
صمت يتملى سماء الوجوه الغارقة في تفكير وحلول مناسبة. وما زالت لعبة الحزرة. عفراء ترنو الى عبد الغني، ومريم تجاهد في البحث والاستقصاء، وجرب مرة كي تلتقي عيناه بعينيها، فرأى الى وجهها الساهم دونما جدوى. ولم تره كما رآها، فأخذ يبتعد عنهم، أطرق برأسه جانباً ونسي وجهها المعفر بالأسئلة والحلول. غاب عنهم. يقيس مساحة خطوة واحدة ليصل اليها .. حتى استفاق على صوت شاها الرخيم: شكون به جاسر لسه زعلان على العلوة؟ وكم كانت هذه اللمحة طويلة، أحس ان الحياة، كل الحياة كامنة في المرور الخاطف.
استمر شعوره، حزن واحباط. مريم تجيب على الألغاز ببراءة ثم تحدقه بكبرياء، فيلتفت الى هند ثم الى عفراء، يتمرى بقية الوجوه التائهة. ولقد أخذتهم الألغاز، تنامت فيهم ضرورة الزهو والمنازعة. وعندما سمع ما قاله سرحان لرجال الديوان، كان قد غاب، سمع سرحان يؤكد ان المشـانق نصبت لمخربي الجسر الخشبي، والذين لفقت لهم تهمة الجسر وتهم أخرى. سيشنقون عند المساء، بحلول الليل، ستلعب بهم الرياح، ترنحهم كالنواس.
وسلطت الظلمة برودة، أنزلتها كالجليد، فتحولت الساحة الى وجوم وذهول. وبالكاد استطاع الرجال رفع وجوههم الى المشانق الغائبة. وكانوا يشدون ياقات معاطفهم بقوة ان يتغلغل الجوى الى صدورهم. وكانت أوهاق المشانق مغلقة على الرقاب ويبس الصقيع قد نال الأجساد والحبال، لا فرق أجساد ميتة أم أجساد ما زال الدفء يمر فيها، دفء قديم. ورفع سبابته اليه: أعايد الخضر؟ الشاربان معقوفان الى الأعلى، والملامح متأهبة للدخول في حجرة نار، والكهربيات تلقي عليه الضوء، يخيل اليه انه عايد على فرس طائرة في السماء.
قرفص، ألصق ساقيه الى بطنه، وتجاهل السريان الذي نقلته السيقان، نسي الوجوه المشتعلة، اللاهبة. تحول عن أنفاسها وعن الالتصاق العذب تحت غطاء البطانية. وتجنى على نفسه: إنه منفي، لا يروق لأحد، ولا يحزر ما يريدونه منه. لذا تحول عن مريم، وعن النكات والألغاز.
وجاءت أخبار سرحان له، له وحده. لا تعني أحداً سواه، فزم شفتيه يظن ان بينهم عايد الخضر. وما زال في جلسته ينحي الغطاء عنه، يقوم الى سرحان كي يتأكد ثم ينفذ الى طريقه، ماراً بالصامتين من رجال الديوان الذين اقترحوا الذهاب الى أبناء العايد لتخفيف حكم المتصرف. وسمع ورأى، ما قاله سرحان عند عتبة الديوان، يقف متصالباً مع الباب المفتوح. باب الديوان الأول قبالة باب الديوان الثاني، بينهما الممر، ممر مفتوح على جهات أربع، الحوش والدرب، الديوانين الأول والثاني.. وحاول جاسر تقليد سرحان في وقفته، فمد يديه الى ضلعي إطار الباب ومس ببنانه الإطار، وكأن ما نقله سرحان الى رجال الديوان نقله جاسر الى الديوان الثاني، دون ان يلتفت اليهم، قال كما روى سرحان: انهم ينصبون أعمدة المشانق، وأضاف قائلاً: في كل البلاد.
من خلف ظهره أراد ان يقول، بلا التفات، بينهم يا هدلة عايد الخضر. لكن الممر الضيق وظهر سرحان البادي أمامه والعيون المحدقة، جعلاه يفوت ما حاول قوله. التجأ عند طرف الباب منزوياً ومنكمشاً على نفسه، وان تقدم داخل الممر ليرى من تحت إبط سرحان وقع المفاجأة على الجميع. نظر الى المجلس المتطلع بفيه مفتوح، من تحت إبط سرحان كان يرى مدى الأفق وصدر الديوان. ولاحت له مريم تريد ان تتعرف عليه من جديد. جانب الباب ووراء العتبة، يتخيل منظر خاله عايد في حبل الإعدام وضوء الكهربيات يملي عليه بعض الوقار. ووجد حاله يسأل أمه عن عايد الخضر، الا ان هدلة ظلت مستغرقة بما جرى، لم تجب ولم تعر انتباهاً لابنها الغائب في هواجس أفكاره. هكذا اذاًً، قال لنفسه، عايد معلق من رقبته ولا أحد يدري.
لم يمر بنا منذ زمن بعيد.. اذا هو معلق من رقبته الى مشنقة!
عايد الخضر. بعد ان امتلأ الممر بالنسوة يستمعن الى ما يقال في الديوان، ترك جاسر الدار، تركها غارقة في صمتها المطبق.. الثقيل. عندما أطرق فرحان الى الأرض، غادر جاسر الممر، اجتاز مريم وأمه وشاها .. الى الخارج الى الشارع العام الى الساحة في نهاية الشارع المتجه الى الغرب: انه الكبر يا جاسر .. لم أعد أملك شجاعة الإقدام والبطولات وها أنا أقع وغمرتني الشيخوخة يا ابن أخي. والهيلوان هدته المسافات الطـوال، قضت عليه فترنح تعباً، مات قبل موتي يا ابن أخي.. الهيلوان / وتراه مضى بي الى اليمن والحجاز، عبر المتاهة يا جاسر وقطع بحار الدنيا السبعة! وكأنني أحكي ولا أحكي، فالحياة ليست حكاية، انتهى عهد الحكاية والهيلوان! انتهى ونكاد نصل.. والمساء قد حل والساحـة راحت تغيب.. لم يفتتها المطر بل المساء الغامض، العتمة أحالت لونها وجعلتها تميل كما المئذنة، مئذنة الراوي يا جاسر، انظر اليها مائلة وستسقط عما قريب، ستسقط الساحة يا جاسر! انتبهوا وابتعدوا. فغادر جاسر الدار مسرعاً دون انتباه أحد. ظلت الدار تطيل التفكير بلا توقف، لدفع أولاد العايد على التوسط لدى المتصرف، بينما ذهب جاسر وحيداً، الى المشانق الى الساحة الى الشارع العام، والحوانيت المغلقة والمئذنة المائلة، غادر بيت فرحان تلازمه وتمنحه مرفقها لتقوده بين الأحراش والبساتين المعزولة في أقصى البلد. وإبان ذلك هبّت نسائم طرية بلّت جسده الجاف وحرفته حيث الساحة المنصوبة، منصوبة من غير إعدام، وتراءى له عايد الخضر يتشبح بين الإعدام والصبر.
ستمتلئ الساحة عما قريب، حين يجن الظلام، عند مجيء العسكر بالمتهمين، أيكون عايد الخضر بينهم؟ رجاء الخضر نفسها لا تعلم، وهي رافقته في الطريق وفي زاوية الحجرة أثناء التجوال والتحرر من الألغاز والمصائر الموجهة. وشعر بنفسه يقفز الى رواية أخرى..رواية ثانية، رجاء الخضر من على السد ترمقه بنظراتها الشاحبة! ولم يميز دخول سرحان الى الديوان ومعه الخبر، فقط عرف ما سيحدث في ساحة البلدة. كان جاسر يسير الى مكان الإعدام حيث صادف في طريقه عدداً من الرجال الذين أشاروا اليه بالعودة، لوحوا له بصمت: ارجع، الوقت غير آمن، لا تحمل نفسك على المخاطرة، فهم يعدمون من يرونه، ارجـع. وتساءل ان كان الشنق يخيف الأبرياء الأحياء!؟ المنظر يبعث المرء على الشعور بالذنب وبالخوف من الميتين المعلقين بالحبال! ومهما يكن سيمضي الى الساحة حيث الجنود المدججون بسلاح العصملي واقفون للإشراف على الحكم. واقفون يمنعون الناس. وكانوا واقفين صفاً أمام الحبال والأخشاب والصلبان والمتهمين، يحملون البنادق.. وقيدوا المحكومين من معاصمهم وأقدامهم. حين بدأوا بتنفيذ الحكم وجاء دور عايد أراد جاسر التدخل لمنع ما سيحدث، انطلق كالسهم الى الدائرة الوسطى، بالقرب من الجلاد نزع السيف والحبل، ثم حاول إنزال الرجل من كتف المشنقة، فدفع بالرقيب ثم انقض على الباقيين يناورهم للمجزرة، واستطاع استلال مدية حادة طعن بها أحد المتقدمين وطعن آخرين أرادوا منعه بالقوة. ولقد جحظت عيناه وعض أسنانه غيظاً وهو ما يزال واقفاً في زاوية المكان يحقد على ما كان من أمر الساحة والمدينة المختبئة في دواوينها وحجراتها. ولتوه عرف انه يشرف على مشهد الموت، المشهد الذي ما إن بدأ حتى تراجع الأهلون جزعين، الى طرقاتهم ومعابرهم الآمنة. ولم يدر كيف اقتاده أحدهم من يده مبعداً إياه عما سيجري في ساحة الإعدام قائلاً: ابتعد .. أنت صغير على هذه الأمور.. وعاد خائباً، انه جاسر الرحبي، كانوا قد أتوا الى الدير منذ مدة طويلة وسكن مع أهله عند فرحان الشاهر. جاء الى هنا، ساحة الإعدام، لأنه سمع انهم قبضوا على الفارين وسيعدمونهم في الساحة، لم يأت معه أحد من أقاربه، جاء وحده بلا رفيق، فسمع أحدهم يقول له: عليك الإحتراس من العصملي في هذا الوقت، انهم يشكون بكل صغير وكبير ولا يرحمون، إبقَ بالبيت.
في الديوان، وجدهم مهمومين. سألته أمه: أين كنت يا جاسر؟ سألته ببرود، فأجاب: كنت في رأس الدربة مع رفاقي نتحازر. ووقف بالممر حيث كانوا يستمعون الى ما يقوله فرحان: ان أولاد العايد ما يطلع منهم شيء بهذه القضية، يمكن هم أنفسهم الذين أوحوا للمتصرف بالإعدام.. لكن هذا الأمر لن يمر بسلام.. طلبوا منا بناء الجسر، وفعلنا حتى التمام، واذا كان بعضهم عاف الشغل فهذا ما يستوجب ولا حتى سجن، كيف اذا إعدام؟ وكلكم شفتوا، ما تأذى أحد من العصملي.. يعني واحد اثنين طلع منهم شوية دم وانفشخوا، خلص خربت الدنيا! هذا العمل ما يصير ولا يجري أبداً ونحن ما نرضى. ان كانوا صحيح إسلام فهذا ما هو عدل .. لا الله ولا عبده يقبل بالشيء الذي يسوونه، بس بس نقول الصحيح هي مصالح الحرب اللي تحركهم، وشافوا أنفسهم خسرانين بالحرب وراحوا يتحججون بالعباد، لا، هذا ما يمر علينا بسلام أبداً وما نسكت.. يسمعون وتسمع كل الدير.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alhawwaij.ahlamontada.com
 
صدى الزور البعيد .. الفصل 12
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 19 )
» صدى الزور البعيد ... الفصل 17
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 18 )
» صدى الزور البعيد .. الفصل 13
» صدى الزور البعيد ... الفصل 16

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الحوايج :: الفئة الأولى :: منتدى الادب والثقافة-
انتقل الى: