الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الحوايج

هذا الموقع مخصص لاخبار قرية الحوايج التابعة لناحية ذيبان -الميادين -دير الزور
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 صدى الزور البعيد ... الفصل 17

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 631
تاريخ التسجيل : 01/12/2009

صدى الزور البعيد ... الفصل 17 Empty
مُساهمةموضوع: صدى الزور البعيد ... الفصل 17   صدى الزور البعيد ... الفصل 17 Emptyالجمعة فبراير 24, 2012 4:35 pm

صدى الزور البعيد ... الفصل 17


ذلك الصوت المألوف، الحركة المتخفية خلف حجاب، ثم القامة الخشنة، مع توكيد قدومها من العلوة، جعل هدلة تيقن انها كدرية. كدرية جاءت الى هنوف النجم لرقي زوجها المحجوم. وأعادت هدلة كلام هنوف عن نسوة العلوة الساحرات: يرصدن النملة ما تتحرك. ومن أين هن؟ أمن العلوة أم من الجوبة؟ حتى بنات الجوبة قد أصابهن ما أصاب بنات العلوة؟ هي رحلت عن هواشة الجوبة، ظناً ان الهواشة قد رصدتها من بقية النسوة، اختارتها لأنها في مرتفع العلوة. وخمنت انه برحيلها ستنتهي العراقيل، تزول حالما تبتعد. وخطر في بالها، ان تكون كدرية قد جاءت الدير من أجل هدلة لا من أجل نفسها ونفس زوجها، نعم لقد جاءت كدرية الى الدير من أجل هدلة الخضر، وإلا لماذا هنوف النجم، في هذا اليوم، في هذه الساعة؟ لكن هذه اللعبة لا تنطلي على هنوف النجم، كانت ستكشفها فتعرف نواياها. ربما هذه المسكينة تعبت كثيراً مع زوجها وكان لا بد من هنوف النجم، والتي يطلق عليها في العلوة الشيخة هنوف.
وصار في نفس هدلة ان المسألة خوف زاد عن حده، ابنها كما بينت هنوف، صحيح وأمامه حياة طويلة، اذاً لا خوف على حياته، هناك بعض الهموم، ستتراجع مع الزمن، وكل انسان يمر بما مر به جاسر. قالت لها هنوف النجم قبل خروجها: دعيه كما يشاء، ولا تبقي يا أختي وراءه، الولد ترا شوية حساس، خليه على راحته. ولزيادة الحيطة ناولتها ترياقاً للأيام السوداء المحتملة.
المهم ان جاسر معافى، لا يصح بعد اليوم ان نخلق الأوهام والوساوس، نكبر ما صغر.. لا لزوم لمزيد من القلق، والوسواس هو مرضنا، ويجب معالجته، لا معالجة جاسر. كان عايد في عمره ولا يرجع في المساء الا وفي حجره سمكة تكفي لطعام العشاء، سمكة أو سمكتين. كان ينادي وهو في المياه: هديل يا هديل تعالي.. هذه السمكة لك.. وأنت تطبخينها. كان في عمره لما بحث عن الممر السري الذي ربط الرحبة بالعلوة، فحفر في الطريق المؤدي الى الرحبة، ظناً منه أنه سيعثر عليه، وكانت الحفر تضايق الصبايا اللواتي كن يحتطبن مع الفجر في سفح الرحبة، كانت واحدتهن اذا ما عثرت بالتراب وانحرفت قليلاً عن الطرقة تتجنب الآبار رفعت صوتها غاضبة: شنو يا هدلة أخوك؟ الله عليه .. يدم هالحفر .. قولي يحفرها أحد برأسه عقل.. على شنو يدوّر؟
وحمدت هدلة ربها، ان الحالة بسيطة، نزوة غلام خلبه حب الاكتشاف، وحمدت ربها كذلك لأن جاسر لم يكن معها أثناء ذهابها الى هنـوف، فكدرية كانت ستنشر الخبر في العلوة، فله حديث ولهدلة حديث، ذلك حتى لو تعرفت كدرية هدلة، إنها تعرف ما تفعله النساء عند الشيخة هنوف، وهما متساويتان، بينما لجاسر حديث آخر.
رغم أن الجو راح يتعكر، والرياح التي هبت تنذر بعاصفة ستكنس غبار الدروب، فتثير ما حط في المزاوي والساحات، فإن هدلة عادت الى بيت فرحان مع ذلك صافية القريحة هادئة، ناعسة القسمات. قال لها عبد الله: لم أرك هكذا منذ زمن يا هدلة. في دمها روح تضحك وتنوي الرقص، دنت من جاسر في الحوش وهي تقول: اذا ما تدبك هسع يا جاسر ترا نربطك بالحبل، ثم استطردت متساءلة: آدمي ينربط بالحبل! كم كنا مجانينا؟! فرد جاسر مقهقهاً: تحسبون شنو؟ كنت أحل الرباط بعد ما تنامون، وأعيده قبل ما أرفع اللحاف عني، أنتم اللي كنتم مساكين وما تدرون، تدقون بالحايط سكة وتعقدون فيها الحبل، والعرق يتصبب من عبد الله، وهدلة توصيه أعقده زين لا ينفلت، مكّن هذيك العقدة وشدها بقوة، وأنا أضحك منكم.. بس قلت خليها والى نهايتها تا أشوف شنو يصير؟ ونظرت مريم الى السماء فانقبض وجهها وزمت عينيها قائلة: عجاج يا ربي؟ عجاج هسع! سكروا الأبواب وما يظل أحد برا، فوتو كلكم الى الديوان.
قال فرحان بينما اجتمع في الديوان: والله خوش، بدل ما تمطر الدنيا بهالوقت.. تعج! وضحك عبد الله، وجد نفسه يضحك لا لشيء، وانساق يقول: في الشتاء برد وعجاج، وفي الصيف حر وعجاج! فرد سرحان: زين اغلقنا الدكاكين وجينا، هي لا مطرها بعقل ولا عجاجها بعقل، شيء طبيعي ما بي.. ثم راح يحكي مع نفسه: نحن إيش اللي عيّشنا بهالدير، الواحد يروح يسكن الشام أو حلب بيروت انطاكية.. ماية بلد أخيّر من الدير، الله يرحم شاهر الأولي ما شاف أحسن من هالدير ويسكنها؟
هذا العام إذا لم يهطل المطر فإن أغلب العربان سيرحل مع الأبل الى الداخل، يترك البادية الى هضبة حلب، الى مراعي تل أبيض ورأس العين والى رأس الجزيرة. واذا امتد القحط فإن اللحم سيبذل، فيندر السمن واللبن، سينقص الصوف من السوق، وتجد الكثيرين يهمون لنحر ما تبقى لديهم من رؤوس غنم وأباعر، لقلة العلف واختفاء المراعي. كذلك سيقل الشراء وتكسد البضائع، وسيرفع الأغلب حاجة هذا العام الى السنة التالية، يصبر ويحتمل لعل السنة التالية خصبة مثمرة. وكانت الخشية تلاحق مهيدي، بعد ان خزن في متجره أطناناً من السمسم. قال له فرحان، بعد ان حذره المجازفة: ما يهم السمسم اذا تخزن زين، تحول عليه السنة وما يناله شيء، المهم الواحد ما ييأس، نحن لسة بأول المربعانية.. وهذا العجاج عجاج كذوب ما له عـلاقة بالخير ولا بالشر، واللي كاتبه الله يصير. فرد مهيدي: والله يا أبو سرحان تأخر المطر، العام الفايت ومثل هالوقت كانت تمطر للمرة الرابعة والخامسة زاد، ترا الدنيا هذا العام خالية ما بها شيء. وقال فرحان وهو يسعل: وكل الله يا ابن الحلال لسه أولها.

لقد ظلوا في الديوان حتى انقطع العجاج، وانكشفت السماء وراحت الطبيعة تسكن، وجعلت النظرات التي انتقلت بين فرحان ومهيدي تؤيد ما قاله فرحان: لا يمكن ان يبقى العجاج في هذا الوقت، العجاج عجاج عابر ولا يدل على الجدب. وخامر مهيدي شعور انه اذا سلم في هذه السنة فعليه الا يخاطر ثانية، ورجى الله هطولاً يندي الأرض ويحي المرابع. ثم نظر الى هدلة فأعاد في سره قولها: يا أخي تشتري سمسم الزور كله، عجل تريد تأكل الدنيا؟ خلي شوية من هين وشوية من هناك. وكأنها حين التقت بنظراته خمنت ما دار برأسه من مخاوف فرددت: بالعون الله .. انشاء الله خير، هالعام خير يا مهيدي، لا تخف.
وتملت مريم الحوش وقد تحول الى أرض رصاصية، غطى التراب بلاطه وطبقات من الغبار على أغصان الشجرة وعلى أعمدة الرواق، وغابت معالمه وتحولت البركة الى حجر دائري مجوف، وكانت أنابيب مضخة المياة الرصاصية مخنوقة، فدقت ساعد المضخة وانتظرت كي تسمع صوت الصدأ وانسحان الغبار العميق في قاع البئر .
وتشكلت أمامها صورة رمزية لشطف الحوش. كان الماء ينهال كالشلال من فوهة المضخة اليدوية. تغلغلت النسوة في أعمدة الرواق وصعدن شجرة التوت وهززن عنها التراب وبعد اتجهن الى نفض الغرف ونزع ما علق بها، وكانت اللدونة تسبيي أعين المتطلعين، تشربت الأجساد برذاذ الماء وشفّت الأثواب، وراح المساء يحي الخيال ويعيد ما غاب خلف ظل الشفق.
بعد انتهاء الشطف وسكون أهل الدار، اتفق جاسر في المساء مع سرحان على العمل في متجره كمرحلة أولى، ثم ينتقل بعدها حيث يشاء، الى مهيـدي أو الى أبيه عبد الله الذي بدأ هو الآخر ينفصل في عمله عن مهيدي، يلازمه ليفهم طبيعة السوق وطبيعة العربان الذي يجتازون النهر، يأتون من قرى الجزيرة في الجانب الشرقي من النهر، وهمس له سرحان: اذا عرفت طبيعة الشاوي والعُربي فإنك تمشي تمام في السوق والتجارة. كان السوق ممتداً.. ولم يأبه الناس للزوبعة التي اجتاحت المنطقة يوم أمس / فانزلت جفان اللبن عن رأسها المنزوي تحت الثقل، واستكانت قليلاً موحية ان ثوبها لم يلتث بالجفان وبالدرب الطويل، فنفضت بيديها ردفيها ثم انحنت على ساقيها صاعدة هابطة، يسمع بأذنيه. وسأل هدلة في الصباح: هسع يستناني سرحان، إني رايح الى الدكان، تريدين مني شيء؟ فقالت هدلة: وفقك الله. وكانت تنتظر عودتي، لقد صنعت لي هبيطاً من تمر البلح والسمن واللحم، قالت: هذا غذاؤه، حين يعود سيأكل منه لحد الشبع.
اذا قلت ليلتها بأنني لم أنم، انتظر طلوع الصباح كي أذهب مع سرحان الى دكانه، فإنكم لن تصدقوا ذلك. هل صحيح أنني أرقت في الليلة الفائتة، ولم أنم فيها؟ ولماذا تأخر استيقاظي، ولم يكن وجهي منتفخاً؟ كنت في أحسن صحة، ولولا النوم لما تورد وجهي واتسعت حدقتاي، نمت سعيداً خالياً من المشاغل.

هذا الضجيح! ليست أول مرة، فكيف يكون اذاً جفاف ومحل؟ كل الأصوات تدور وتتلاقى تحت قبة السوق، وهي متصاعدة متراكبة في الضحى والظهيرة، وتفتر بعدها ثم تغيب. وفي الشارع العام كانت الحوانيت والتي لم تجد مكاناً لها في السوق المقبي، متناثرة على الجانبين، تشير الى التوسع القادم للسوق. وكانت وراءه مئذنة الجامع المائلة وأمامه على بعد ما، ساحة الشارع العام، ساحة السوق، والى يمينه كان السوق المقبي، وقبل ان يصله عرج الى دكان سرحان بعد ان مر بمتجر مهيدي ووقف يتأمل خاله بين رجلين، داخل المتجر. يساومان في شل كبير من الصوف. انتظر هناك أمام حانوت سرحان حتى انتبه اليه الأخير، فرفع رأسه قائلاً: أهلاً يا جاسر، قلت والله مِن تأخرت كل هالتأخر ما راح تجي.. فوت اقعد بسدي. ففتح جاسر باب الطاولة الممتدة من جانب الدكان الى الجانب الآخر، وجلس بالقرب من سرحان واتكأ بمرفقه على الطاولة وهويقول: تأخرت شوية بالنومة، باكر باذن الله أسري معك. فقال سرحان: ما يهم، تعال على راحتك.
الرفوف في عرض الحائط، مليئة بالأقمشة الملفوفة ( طابة ) على عارض خشبي، وبقطع من أمثلة القماش معـلقة على مشابك تقوم على عمود مربع، تعرض اللون والجودة. ولقد مد سرحان بعضها فوق المشابك حتى بدت كخيمة تخفي داخلها عروساً منعها الحياء أن تظهر. جلس جانبه على كرسي نسجت قاعدته من نبات القصب، أخذت شكل مربعات ودوائر متشابكة غطت قاعدة الكرسي، وسمع سرحان يقول: من هسع وطالع يخف الشغل، العربان تبدأ ترجع الى أهلها، ويظل الشغل بس لأهل البلد، وهم قليل. ثم أردف وهو يشير الى كانون الفحم: اذا بردان اطعمه كم خشبة، برا الدكان، وبس يجمر، نحط فيه دلة القهوة.. تراه الآن خبا، كنا من الصبح نتدفى ونتقهوى عليه. فسأل جاسر: شراره ما يصيب القماش؟ فأجاب: لا، الواحد يكون واعي شوية، وعندما ينس جمره ندخله الى الدكان.
أمضى اليوم الأول بين كانون الفحم وبين التطلع الى المارة الذين يمرون أمام الدكان، وكأنهم يكتفون ببضع خطوات في هذا الشارع الطويل. يمرون بالحد الأول من زاوية الرؤية وينتهون عند الحد الثاني، يظهرون بخطوة ناقصة غير تامة، الخطوة الأولى والأخيرة تأخذان شكل سقوط. وانه مقطع من شارع الحياة، شارع الدير العام. كان يرفع فنجان القهوة المرة الى شفتيه عندما أحزر سرحان قائلاً: احزر يا سرحان هسع من حد الشمال من اللي يظهر، رجل ولد بنية امرأة.. وشنو لابس؟ فضحك سرحان وقال: والله خوش تسلية أقول راح يظهر زلمة.
وهز جاسر رأسه ، يتابع وماذا بعد، فأردف سرحان: ما هو شاب، زلمة كبير، وكهل زاد .. وزاد يتعكز .. ويمكن لابس طربوش.
ثم ساعده بنشاط في إغلاق الدكان، دفع شرعتي الباب بقوة كي تنطبق فيدخل المتراس الأوسط في حلقتيه، ولقد جذب المتراس السفلي الى فوهة القفل ثم أقفله بنشوة أشعرته بانتهاء العمل. وسارا عائدين، في الشارع العام، الشارع الذي أغلقت معظم حوانيته لصلاة الظهر.
خلف وراءه فراغاً، الفراغ، كانت الحوانيت المغلقة، فارغة من الداخل، لا أحد فيها، وانجذب الى سرحان، كأنه يلتصق به، وكلتا يديه تمسكان بمرفقه ورأسه مستقر على كتف سرحان. وقد خلف وراءه الفراغ.. الى ان وصلا بيت فرحان، وهو يرى تفاصيل يومه فتبعث فيه حياة جديدة.
كان المارة وهو في الدكان يجذبون عينيه من جهة الى أخرى، فكأنه يمر معهم، ثم يعود الى من يمر الآن، معهم حتى حسب نفسه خارج الدكان. فقال له سرحان، لما رآه لا يهدأ: الواحد يا جاسر ينتبه على الشغل، ما يهمه من يمر ومن لا يمر، انتبه الى ما ينباع وما ينشرى، أولاً الشغل واذا انتهينا دحق على الرايح والجاي. وراح جاسر يراقب كيف يصر سرحان القماش، كيف يقيسه بالذراع ثم يطويه طيات متلاحقة الى ان يصل الى ما يريده من مقاس، وكيف يقطعه بعناية وخفة، ثم كيف يعامل المشتري برقة واهتمام.
ستشعر ان الكل يترقب عودتك، ينتظرك بشكل أو بآخر، وسيتغير العالم من أمامك، ينقلب على وجه مختلف، لم تكن لتراه أثناء مكوثك جانب هدلة. في كل مرة تعود فيها سترى البيت بلون جديد، وستجد الأيام مليئة سريعة، لا تقف ولا تني. وقتها يا جاسر سيحكمك قانون كبير، يسيّر الشوارع والدروب، يسير فرحان وعبد الله .. سترى فرحان في صورته الحقيقية، وستكتشف الدوافع التي أدت بعبد الله الى نسيان هدلة وابنها، الى الاكتفاء فقط بعد النقود كل ليلة. ورمق المئذنة المائلة من خلال كتف سرحان ورأى أن إحدى طيات سترته تقترن بشرفة المئذنة، كأن احدهم يطوي نفسه هناك فيؤذن لصلاة العصر. في هذا البرد يصعد المؤذن الى شرفة المئذنة يدعو للصلاة، يلفحه هواء بارد فيزداد بذلك الارتعاش والجمال واحتمال ان تميد المئذنة. وعندما اقتربا منها انحرفا حيث شارع فرحان، فبدا البيت الجديد، يضحك له، مستقراً في هيئة استقبال، ووطأ الرصيف النظيف، وفتحا شرعة الباب الكبير.
وقال سرحان وهما في الشارع العام: لقد تأخرنا على البيت، وسبقنا الجميع، لولا بضاعة الفتاة لما تأخرنا الى هذا الحد، المشكلة انهم يودعون أغراضهم عندنا الى ان ينهو أعمالهم في السوق فنتأخر ونحن ننتظرهم.. لولا الفتاة لما تأخرنا الى هذا الوقت، كنا عدنا الى الدار مبكرين.. في البيت يشربون الآن الشاي، لقد فاتنا الغداء معهم، أكيد ان فرحان قد خمن السبب، أنه البيع. لقد أخذت الفتاة قطعة النسيج ثم طلبت إبقاءها عندنا كي تلحق أمها الى متجر البقالة عند رأس الشارع، ومكثنا ننتظر رجوعها مع أمها، ونحن نرمق الشارع ورأس الزاوية والمتاجر التي شرعت بالإغلاق ولما لم تعد صمم على إغلاق متجره فارتجاه جاسر ان يبقى قليلاً لعلها ترجع وتأخذ حاجاتها.
قبل سنين، قبل ان يغادر العلوة كان يمر على خاله مهيدي في السوق، أيام كان عمله في العلوة، ويأخذ من محاله ما تحتاجه جدته وزنة أو أمه. وحين يقف في دكان خاله لبعض الوقت ينتظره حتى ينتهي من الزبائن، يجد نفسه في عالم غريب لا يفهمه، بين كرات ( القنويشة ) وطيات قمر الدين وصناديق الحلوى والسكاكر، بين أيد تعطي مجيديات وأيد تأخذ ما تريده من أغراض. وكان يشعر ان الحركة في السـوق تقف وراءه فلا يراها، كان يرى خاله فقط، من زاوية مفتوحة على طلب هدلة ووزنة. وكان يقول في نفسه، حين يحضر أمامه مهيدي طلب وزنة، يقول: ما أعظم بله من يبيع ومن يشتري.. يقضون نهارهم كله في السوق المقبي، يتبضـعون وينسـون ما يجري خارج الدكاكين، ينسون أولادهم ونساءهم… اليوم وهو يعود مع سرحان، وجد ان عالم الأسواق عالم يظهر فيه المرء على طبيعته، ينحي عنه سجاياه، ليواجه العالم الآخر، العالم المرتد. ولهذا تكثر فيـه الضوضاء، وتمتزج في مناحيه عالم الأصوات المختلط. وجرب حين كان في دكان سرحان، ان يسمع الأصوات مجتمعة في حزمة واحدة، توحد الجميع تحت قبة السوق، ثم اغمض عينيه، ألبس الجميع ثوباً مشتركاً، وازى به الرجال والنساء، وبدت أمامه الصورة مشوشة غير قادرة على تمييز المشترين والبائعين، سراباً يتحرك، وكان الصوت يتردد واحداً واحداً متباطئاً متراكباً. الا انه انتبه الى الفتاة التي أودعت بقجتها عند سرحان وقالت وهي تغادره: ما أتني .. أعود بساع ويّا أمي هناك براس الشارع. وأدار نظره الى عيني سـرحـان اللامعتين تشيعان تميّس الفتاة.
لكنها لمست يده ثم تحسست القماش المنفرد على طاولة العرض وسألت: بكم الذراع؟ فأجابها منبهراً والشوق يرتسم على شفتيه: ما يهم .. غالية والطلب رخيص. واختفت يده تحت ستر القماش، فوق الطاولة. وحاول كل منهما كتم الألم الناجم عن انصهار الأيادي المتعانقة. وسمع جاسر ضحكة خرجت عن إرادة الفتاة، ورفع لها سرحان عارضة الباب كي تدخل وطلب من جاسر يقول: جاسر إطلع عمر لنا الموقد ثانية. فقال جاسر مندهشاً: ما انتهى العمل لسه؟ وسمع إصرار الفتاة: لا لا لا تقوم .. انني رايحة.. أرجع مع أمي بعد لحظات.
وكانت عيناها وهي تغادر المحل قد رسمتها المخيلة، رمت عليها عصبة رأسها الوردية حينما مضت في الشارع العام، وتخيل جاسر شعب الذهب في أذنيها وهي ترن وترن وترن، وراح يتابع رنيماً يسير في الشارع. وقال في نفسه: أين أنت يا هدلة منها.. هل لها خال أيضاً كخالي عايد، خاصة وانها قريبة من ضفاف النهر وقريبة من السدة والمزارع المترامية على النهر. وسأل سرحان: أين أهلها؟ فأجابه: نواحي سعلو من ضفة النهر الثانية، عليها العودة بعد قليل والا اضطرت الى المبيت لليوم التالي في الدير، تأتي كل أسبوع مع أمها للتحوج. وعادا فأقفلا المتجر ثم سارا في طريقهما الى بيت فرحان.
لولا الفتاة لما تأخرنا يا هدلة، كنا سنأتي معهم ونحضر الغداء معهم، لكنها تؤخر يا أمي .. وتظاهر سرحان بعدم الاهتمام، فأراد إغلاق المتجر قبل مجيئها. ولو انني ما منعته لما أقفل، وعندما جاءت مع أمها وقف سرحان معهما زمناً طال حتى حسبت انه عدل عن العودة الى البيت، ثم قال لهن مشيراً إليّ: هذا ابن عمي.. ابن اللي صدمته عربة الماء في العام الفائت.. تقدرون تعتمدون عليه اذا ما كنت موجوداً. وسأل جاسر سرحان عنها، فقال: كانت حاضرة على عربة الماء، وقت صدمت أباك عبد الله، ولقد رأته هنا في نفس اليوم. وحاولت هدلة تذكر الحادثة، استعادت حوادث العام الماضي، ثم سألت جاسر ان كانت قبل النزهة التي قاموا بها الى الحويجة أم بعدها؟ ولم ينتبه جاسر الى سؤال أمه، ظل صامتاً أمام المرآة مضاءة بنور دخل عبر زجاج النافذتين، ولمحته يتعذب في الظلال غير الواضحة في المرآة، والتي عذبتها قبله، فقالت له: اذا تريد تدوّر عن وجهك، انقل المرآة الى محجر النافذة، ترى عندها وجهك تماما. فأجابها جاسر: يمكن قبل النزهة يا أمي، تذكرين وقت صار حكي بهالموضوع، أظن ان عمي فرحان طرح وقتها ما جرى وقال لو ان الحوذي ما كان يقظان كان تصوبت يا عبد الله، تذكرين؟ ودمدمت هدلة: ظنيت انها كانت دعابة من عمك فرحان، لكن ما علاقة هالشاوية اللي كانت تتدلّع عند سرحان؟!
وأخذ عبد الله يحصي النقود في ضوء مصباح كاز متجاهلاً قول هدلة فيما جرى اليوم وفيما فعله جاسر في متجر سرحان، فتاة أودعت حوائجها عند سرحان الى حين عودتها، وأخرت إغلاق المتجر، ينتظرون عودتها مع أمها لأخذ حوائجها، ظناً منهم انها ستبات في الدير اذا أقفلوا المتجر، فقريتها سعلو ليست قريبة كي تذهب وتعود في اليوم التالي. ظل يكرر العد حتى اطمأنت نفسه، ثم قام متثاقلاً باتجاه المصباح اطفأه يعود الى الفراش بجانب هدلة. واستيقظت عندما اندلس في فراشها، وسألت عن جاسر، فأجابها عبد الله: سيبات عند سرحان حتى يذهب معه صباحاً الى المتجر، ثم تظاهرت بالنوم، وأركد رأسه على الوسادة يتذكر طيف وملامح شمسة وعصابتها الوردية وخلاخلها المتراقصة. ومن خلال رائحة الكاز التي انتشرت بإطفاء المصباح، كان يتحسس بيده أوضاعاً عجزت مخيلته عن احيائها في هذه الساعة، ولمس الحرارة الساكنة خلف ستر هدلة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alhawwaij.ahlamontada.com
 
صدى الزور البعيد ... الفصل 17
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 19 )
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 18 )
» صدى الزور البعيد .. الفصل 13
» صدى الزور البعيد .. الفصل 12
» صدى الزور البعيد ... الفصل 16

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الحوايج :: الفئة الأولى :: منتدى الادب والثقافة-
انتقل الى: