الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الحوايج

هذا الموقع مخصص لاخبار قرية الحوايج التابعة لناحية ذيبان -الميادين -دير الزور
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 صدى الزور البعيد – الفصل السادس

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 631
تاريخ التسجيل : 01/12/2009

صدى الزور البعيد – الفصل السادس Empty
مُساهمةموضوع: صدى الزور البعيد – الفصل السادس   صدى الزور البعيد – الفصل السادس Emptyالإثنين فبراير 20, 2012 1:21 am

صدى الزور البعيد – الفصل السادس


يرتجف من الرعب داخل الصندوق المغلق.
ما دام الطـوب والكلّـة بأثرنا يا هلنـا ما لكم بينـا رجا.

.. .. ..

داخل معلف الهيلوان، داخل العالم المغلق. يتوارى في الأمكنة الباردة. الطنين يئز في مسامعه: من كان ومن سيكون رماد يصعد إلى السماء. أبراج مداخن الفحم الناري تملأ السفوح.
تراءى أمامه السرجان جاسر يطوق الكلونيل ومعاونيه، ويحيي علم البلاد وهو يُرفع فوق اسطحة الثكنة الغربية ..العالم يدفعه كي يغوص في قرار عميق. تراءى له ان المعلف بئر حقيقية تصل إلى عمق الأرض السابعة لقلعة الرحبة، أرض الجن والنار، غاص مع الذين يغوصون.
واستيقظ.
نهض من القرار. لقد خف الصدى وتلاشى. شيء ما يستريح تحت الماء. هدوء يسبق العاصفة. عاصفة قادمة. دلة الغانم- اهرب يا خليل!! تقودهم، تخب أمامهم كعجوز ماج، لسانها الأرقط يندلق من فمها المثغور، فيسيح على صدرها الأعجف. كان العالم يتوسع ويضج، فارتطم في أذنه صوت تشظي الباب الخشبي، وكزّ على نفسه يقول: جاؤوا يا هدلة!! أمامهم (حربة) الغانم، تخبو كحصان أو بغل. صاحت بصوت أصفر: ورائي أدلكم عالباب. تحبو أمامهم عل أربع، وكانت دفقة من الهواء قد قلبت ثوبها إلى أعلى رأسها، فانكشف لرجال السلطان الثلاثة عظام ساقيها ورأوا بدهشة الثقوب العديدة في حوضها الخشبي. ظلت تتقدم وتحجل على ركبتيها، وتعلقت وزنة بخيط من روحها لما رأتها تتجه بدهاء إلى الباب المخفي، فعرفت أن سر الأسطبل قد ذاعته خود. وبتثاقل فتحت الباب فانفجر المكان بضياء الشمس، وسمع حسن صوتها يئز في أذنيه: ها ها ها .. انت زاد تروح، مه بس خليل .. هع هع هع.

نامت العلوة ليلتها حزينة على قصة دلة وفعلها الشائن بحق بيت عبد الله. واعتبرت خود نفسها مسؤولة عن الذي جرى، فكانت تنعزل في زاوية المطبخ أو في طرف الحوش، بعيدة عن الأنظار، تبكي بحرقة مليئة بمشاعر الذنب. وكانت هدلة كلما تراها شاحبة دامعة توكد لها إن دلة هي السبب، لماذا لم تقم زوجة رداد مثلاً بإخبارهم؟ مع أن ابنيها ذهبا إلى النظام. إن دلة تكرههم منذ زمن وقد قامت بخبث في استجرارها بالكلام عن مخبأ حسن. غير أن دلة أعترفت بذنبها بعد يومين وأمام هدلة، قالت لها بأسى: ما أدري من اللي تلبسني يا هدلة، كنت من دون وعي، يا هدلة تصدقين او ما تصدقين دلة وقتها ما كانت دلة.
ولم تمض ساعات حتى فكرت دلة ان أخاها رافع الغانم سيحل مصيبتهم وسيزيل كربها. قالت لكدرية: روحي إلى هدلة، لزوم نشوف حال لرجعتهم، وإني أبعث طارش إلى خاله رافع، ضروري يجي.
وجاء رافع على فرس شعلة. كان ممتلئاً، وجهه مستديرة وعيناه سوداوان، يتبند بندقيته العصملية وسيف الكردة. وصل الجوبة بعد أيام من رحيل ابن أخته خليل إلى سفر برلك. واتجه إلى مخدع أخته تحت أظلة الرواق.
كانت نائمة شاحبة ترمق عمود الرواق بخواء، فرفع عنها الغطاء، ومسد بيده شعرها المنثور، قال لها: دليّل، يا دا دليّل تراني هين. وقبل ظهيرة ذلك اليوم، أسرج رافع الغانم فرسه ومعه عبد الله الرحبي على حصانه الأشهب، تزودا بالتمر وقمر الدين وقربتي ماء وبالخبز ثم انطلقا تجاه (قشلة) الدير، فعلمـوا منها أن قوافل المشاة سارت منذ يومين تجاه عينتاب، مركز التجمع، فأمضيا ليلتهم عند مهيدي أخي هدلة، وفي الفجر تابعا الطريق صعوداً بموازاة النهر.
وأدركا قافلة المشاة في مساء اليوم التالي، كانت مخيمة جانب قرية القصبي، قرب النهر وتحت مرتفعات حصن حلبية، لتتابع مسيرها بعد استراحة الليل. وكان عليهما أن يتعقبا القافـلة عن بعد، على مدى سبعة أيام، إلى أن تصل قشلة عينتاب، حيث تفرز الكائنات على الفيالق والسرايا، لتسير إلى الشمال والجنوب، إلى صربيا والمضايق.
كانت عينتاب خان تجمع وانتظار، ممتلئة بالترقب والترصد، بصخب الأقدام المترددة، الباعة الجوالين، الحريق والدخان. وصلا اليها وانتظرا حتى دخلت القافلة إلى سجن القشلة. بدت المدينة ولوهلة نائمة في قيلولتها الأخيرة. فبحثا عن ملجأ آمن. وكان هناك بستان قبالة القشلة، أشار عبد الله إليه بوهن: كأنه بستاننا يا رافع! فأجابه: ترتاح يا أبو محمد بالبستان لحين أشوف قصتي مع الأولاد.
البستان يحمل الكرمة وأشجار الكرز والزيتون، وقد غمرت الأشجار وجه عبد الله حين أراد ان يحد نهايته بعينيه الخائرتين. اقترب من بيت البستان وترجل عن حصانه الأشهب، ربطه بجذع شجرة، ثم تنحنح وحاول أن يرفع صوتـه: يا أهل البيت، أحـد هين. وجد أن صدره لا يتسع لهذه الكلمات الثقيلة، فاكتفى برفع يده حين لمح إحدى النسوة في فناء الدار. كانت شابة تفوح منها رائحة الحليب الطازج. بادرها بالسلام. فردت عليه. ثم أشارت له بالدخول، وسألته فلم يفهم منها، أومأ أن ابنه مسجون في القشلة، فسألته : أتحتاج إلى شراب؟
ولم يطل رافع الغانم غيابه، جاء إلى دار البستان بعد ساعة، كان عبد الله قد استرجع قواه، وعرف من غانم أن حارس السجن ذا القامة الطويلة، وعده سرّاً بإخراج أحد الولدين حين تأتي الفرصة، إذا أعطاه أربع نيرات ذهبية، وذلك قبل أن تفرز المجموعات إلى منـاطق القتال. واقترح رافع الغانم على عبد الله أن يقابل رئيس القشلة ليشرح وضع ولده الوحيد: يمكن الله يهديه ويفلّته.
وقابل عبد الله رئيس القشلة، بمساعدة الفتاة التي تمدهم بالحليب، شرح له تتبعه للقافلة من قرية القصبي حتى هنا، ومحاولاته في الطريق كي يعود مع ابنه إلى العلوة، بإعطاء مراقبي القافلة نيرات الذهب الخمسة الـتي يملكها. وقال أخيراً إن عودته دون ابنه سيفضل عليها الموت، فطمأنه رئيس القشلة، ووعده أن يرسل ابنه في أثره في فترة أسبوع أو اثنين .. واكتفى منه بثلاث نيرات ذهبية لبناء مسجد عينتاب.

عند طريق العودة طويل... كانت دلة تنتظر وكانت هدلة أيضا تنتظر.

قال له طويل القامة في الليل: هس هس! رفع سبابته: هس هس. كنمس يتسلل. فتح حارس السجن الباب لخليل: هس هس كوزلارم روح. فانحدر تجاه الشرق، وسار حتى ساعة البزوغ. مرّ بأقرب قرية واحتفن منها تمرا وقربة ماء. ثم ابتعد نحو التلال والمرتفعات، حاذى الظلام ونام منتظرا غياب الشمس. سيتابع مسيره مستدلاً بالنجوم وبغبرة كبش الخليل.
بحلول الليل وطلوع القمر. وكان بين فينة وأخرى يقارن بين هنا وهناك. لم يكن يدرك أن العالم هناك يختلف عن بقاع الأرض الأخرى.
في الجوبة بينه وبين صالح خطوتان، وبينه وبين دلة كذلك، وحتى كدرية غول نفسه، بينهما حاجز الخطوتين، ولولا علمه أنها ابنة نورا زوجة مواس لما اقترب منها يوم مرت جانب شجرة النخيل. فكر في ذلك وهو يمضي فوق تربة الأرض تجاه الظلال المتوارية عن حرس النظام. التربة أثناؤها جعلته يشعر أن العالم ما ينفك يتسع ويكبر. وسلّطت الأرض، في فضاء خال، أضواءً على جانب نفسه الخدرة، فأيقظتها للحظات، قدّر خوفه منها بالشهقة التي اعترته فجأة، وكادت أن تنتزع خطاف عقله. على حين غرة، اجتازته تيارات رطبة، تخللت نسجة الساخنة، فأدرك سذاجة الأشياء، الجوبة والعلوة وعينتاب.. كل الأمكنة بل كل العالم. دلة كانت ملتصقة به، صالح، كدرية. وفطن أن هذه المشاعر لا يدركها إلا عن طريق تحليقه في السماء، كطير تحرقه الرغبة في الابتعاد عن هذه الأرض، عن الجبال والوهاد.
حين اقترب المساء، راحت الأمكنة تتداخل دون ظلال، فيتابع مسيره منحدراً إلى جانب بلدة (بيرجك)، اسـتدل من أحد الرعاة: إنها تقترب من النهر، وتحتذي شواطيه. وتعيّن عليه أن يضع غمامة كبش الخليـل، درب التبانة، في ظهره، ويتجه إلى مجموعة النجوم الأربع، التي تشبه ذلك الوجه الانساني الذي كان يشكله فيما مضى، حينما كان يستلقي على سطح داره ليالي الصيف. ولم يكن يجرؤ على الاقتراب من البلدة، بزغت أمامه على ضوء سحر، فتوارى عن حدودها خوفاً من عودته ثانية إلى قشلة عينتاب.
الشمس التي كانت تصعد في بداية النهار، بينما اختبأ في البساتين التي كانت بينـه وبين بلدة بيرجك، ذكرته بصخب نهار البلدة. صخب النهار يعكس شالا أبيض، تنشره دلة باختيال في نور الشمس. العالم ضحى يتراجع إلى صورة فوق الحائط الذي يلف حوش الساير. وساءل نفسه حين رأى امرأة قادمة من بعيد: كدرية؟! لم يظن أن القادمة هي إحدى بنات أفكاره. تدخل بين الأشجار حذرة، تتلفت بين الخطوة والأخرى، وكأنها توارت خلف شجرة زيتون وهي تنظر إلى رجل يعتمر عمامة. وكان التعب قد أنهكه، فرأى أن ذا العمامة يُقْبل مبتسماً، ثم يختفي خلف شجرة زيتون أخـرى. لم يتسن له أن يتابع بنظراته الواهنة.
أفاق على صوت يناديه من وراء شجرة بعيدة، شجرة مفردة لم يميزها. كانت الشمس تقرع رأسه ففتح عينيه إلى جهة الصوت. كان ذو العمامة يوقظه بلمسات من عصاه على رأسه الأشعث، يدمدم بكلمات لم يفهمها في البداية، والفتاة إلى جانبه، تنتظره بهدوء وسكينة. قال الرجل ببشاشة: أنت ابن عرب! ثم مال نحو الفتاة وقال لها: يما اعطه بسطيق وحليب يرتوي. ثم ناوله عصاة ( المجناة ) وقال: تحميك وتسندك، خذها.
أصبحت بلدة بيرجك خلفه، حينما ترك أحلامه، بقايا فتاة ورجل بعمامة. ومضى إلى مد البصر. كانت يده التي شدت مقبض المجناة بقوة، تجعله يزداد همة وعزماً. ودون توقف أو نوم.. الا لساعات قليلة، حتى دنا من جرابلس حيث ضفاف النهر، فاستلهم المكان، ولاحت المدينة أمامه، فأحس بالتوق والاندفاع، امتدت خطوته فكبرت همّته.
عبر وادي جرابلس، وهضاب الخطوط التالية. كل ذلك والشمس لم تغب عن يومها الأول، إذ أن النهار كان طويلاً، مليئاً بالليل وبفترات النوم ثم اليقظة، فقرر أن يقضي بعضاً من الوقت عند مصب نهر الساجور، ليستأنف رحلته حين تنكشف الدنيا في اليوم التالي.

ظلت أمامه مسافة طويلة، وتغيرت طبيعة الأرض، اختلف ثراها، أصبح ابيض متماسكاً. والسماء الناصعة تربط شمسه، أدرك خليل بالتتالي الشروق والغروب،لم يأبه بالنجوم، تمكن بقوة وإرادة من المكان.
تابع جريه، تنحى قليلاً عن النهر الذي سينعطف نحو الشرق. تضاءل الطريق أمامه مشكلاً في فسحته المتراميـة مفازات متتابعة.
هذه الأرض الفضية، واسعة الأفق واضحة المعالم، تبدو فيها أركان العالم قائمة بلا مواربة. صادقة مع النفس جريئة، يشدها الحنو إلى الخلف، فتستحضر أناسها وأبطالها، ولا تنسى. واقفة بصمت تردد ايماء الحياة: مرّ من هنا، يمر من هنا، سيمر من هنا، فيكون هنا.
خليل الساير هده الطريق، جذب عقله واضنى جسده. ولم ينه نصف المسافة بعد، فما زال أمامه الكثير. أحس أن أقدامه تنز وتتورم، حتى أن سـاقي بنطاله العصملي أخذت بدورها تتمدد وتتلوى، تنحصر تحت ثقل العظام وتنخنق من اللحم المنتبج. كان يطوق العصا فتمنحه أحاسيس الأمان. وسأل روحه حين تراءى له ثلاثة أشباح يتحركون على صدر الأفق، بين اللهاث والآنات المتخفية: هذوك سراب يتحرك؟! كانوا يطوفون بين الشمس والسراب، يغيبون تارة ويظهرون أخرى. وأغمض عينيه ليزيل عنهما الكرب. ظن أنهم حكاية ضالة؟ لكنه رآهم الآن حقيقة، صارت قوافلهم تقترب منه، ربما عربان في طريقهم إلى أراضي الزور، إلى مريبط؟ خمن وهو يحاول الانحراف عن طريقهم، والغياب خلف التلة التي على يساره، تلة تبعده عنهم إن كان طريقهم إلى الزور، وكانوا قادمـين من مراعي الحبارى والقطا. ولكنهم انحرفوا معه، رفعوا عليه راية الوقوف، كأنهم يقصدونه بالذات، ومظهرهم الملتبس لم يرحه. ومن بعيد صهلوا فيه: وقف أنت يا هين. كانوا ثلاثة رجال ملثمين على عجل، فوق حمير شهرية بيضاء منتصبة، يحملون سيوفا سيئة ومجناة، صاحه أحدهم: وقف انت؟ فأجابه خليل، يغرق في عرق ولهاث مرتعب: إني إني ، ايد .. هذا .. طريقي. فرد عليه احدهم: يا ول .. ما عندنا وقت إعجل، طالع اللي عندك. ياللا طالع رشادياتك يا نغل .. هاتهم ياللا. وقال الثالث بصلف: شنهو هذي العصا يا ولد.. عصا موسى بها قريشات .. طالعهم والا نطالع روحك؟! فنظر اليهم متوسلاً، قال: والله ما عندي شيء .. تعالوا فتشوا. فردوا عليه: اذبحوه ياللا، واذا ما عندك شيء نذبحك وحق النبي. من عينتاب تراني جيت، سفر برلك .. والنبي ما عندي شيء. فأشار أحدهم: حدروا عليه. فقال لهم خائفا : اها .. اها .. ما بي عنـدي شيء. قال ذلك ثم رمى سترته المتعرقة، وناولها لهم، وفتح ذراعيه وربت على صدره وخصره وأردف: ما بي شيء، تعالوا فتشوا .. وحق النبي. فتفقد أولهم جيوب سترته ثم استعرضها أمامه ليرتديها، ثم راح يزدرد حبات التمر التي وجدها في جيبها. كما أخذ الثاني يتلمس جسد خليل، لعله خبأ شيئاً ما تحت ملابسه، ما بين فخذيه وتحت إبطيه. وقال الثالث بتجهم حين لم يجد الثاني شيئاً: ها... ولد اللي فعلها .. أكيد بالع نيرات الذهب. فعرف خليل مصيره المحتوم. تراجع إلى الخلف مدمدماً: والله .. ما عد .. ما عندي .. ول اني انهزمت من القشلة .. اني. ومرت أمامه قصص من قضوا نحبهم في أسفارهم ورحلاتهم، على أيدي قطاع الطرق الذين يظنون حين يعثرون على جماعة لا تحمل النقود، أن الرجال قد ابتلعوا نيرات الذهب قبل بدء الرحلة خشية السرقة، فكانوا يبقرون بطونهم لإخراج القطع الذهبية منها.
وأراد ان يتذكر صوت دلة، أهرب يا خليل .. ليل .. ليل، يتذكر سرايا أبيه، هواشة الساير، ملامح الرجال والنساء، الرجل مديد القامة الذي قال له في لجة الظلام، هس.. كوزلارم.. روح، يتذكر الليل والنهار، والصحارى التي قطعها دون توقف، الانهاك الجاثم على منكبيه، أقدامه المتورمة.
ونظر إلى السماء، وقد تعلقت روحه في قبتها، وتهامست دخيلته المحتضرة مع روحه المتأرجحة من سماء إلى سماء: هذا خليل راح ينذبح .. مسكين وحده. فضحكت روحه، هزأت منه، وشعر أنها شيطان كانت تسكنه على مضض كل سني حياته. ولهنيهات توثبت روحه، عندما رفع أحدهم السيف، لكي تطير وتغيب عن أنظاره، روحه الصفراء المذهبة ستتوارى عنه قاطعة الوشيجة الأولى. ولم يستطع أن يمسكها، أن يجعلها تعود وترجع إلى مخدعها سوى ذلك الجرم القادم من بعيد. لعـل الجرم مجرة؟ سواه لم يكن. كانت عينا خليل مغلقتين، وجسده غائباً حين سمع صوته المدوّي في عمق البادية: هلّيل يا ول .. يا ول هلّيل: وقفوا فو فو. وسمع ايضاً حوافر الحصان تدك الصحارى: دب دب دب دب. وصوت الصهيل عند التوقف: ابعدوا عنه. ففتح عينيه كي يراه، كما الحلم، متيناً مثل برج، وصوت الصهيل عند التوقف، ابعدوا عنه، هليل هليل، ابعدوا، دب دب دب، وحوافـر الحصان تدك الصحارى، يسيل منه الحمأ والسراب، على حصان أسمر متّقد: خلوه يا عجيان .. امضوا ياللا.
عندما راحوا في طريقهم، دنا منه، سأله: من أنت؟ فأجابه خليل. ثم قال له: ايه جاء بك إلى هذه الديار، أتراك مهزوماً؟ فيما بعد عرف خليل أن اسمه "كاتل السبع"، وقد التقى عايد الخضر ابا دنيا في مضارب ابن مهيد. ثم طلب منه أن يتقي شر الطريق، فتابع خليل خببا بينما امتلأت عيناه بوجه كدرية الضاحك الفرح، وانطفأ الحقد الذي تشكل في صدره منذ زمن، ضد صالح، رغم إصرار كدرية ان الأمر لم يكن كما ظن. كانت الجوبة تنتظره. المسافة التي قطعها، يجتازها المرء في أيام وأسابيع، وكانت الطريق العامة بعيدة عنه، طريق القوافل والتجارة إلى الاستانة، لا يراها ولا تراه. وفي مساء اليوم التالي لاحت أمامه رصافة ابن هشام، مهجورة خالية، دون أمير، تنتظره بصمت وسكينة، فدخل في فتحة سورها المنهدم، وصعد إلى أعلى السور، وعن طريق الدرج المشظى، مر بالنوافذ، بفوهات النبّالة والدفاع، تابع إلى أعلى السور المتداعي ثم هبط إلى مصطبة عريضة، كان وقف عندها يوماً ما قواد الدفاع والجنود، هناك ألقى جسده، دونما أحلام او ذكرى، نام تحت وجه القمر.

في اليوم الآخر سلك طريقاً يحاذي النهر ويشرف عليه، تخلى عن الهضاب والوديان، عن لقاء الجبال ومفازة الوحوش. ظل يحجل بلهاث، ومال إلى الشرق قليلاً عندما التقى بسفوح جبل بشرى، وحين أشرف على قرية القصبي المنخفضة، رآها، كانت جانب النهر، رأى سفينة عارضة، تريد العوم، ليست غريبة عنه، اتجه اليها غير عابئ بما سيواجهه من وشاية، الوقوع في فخ رصد لأمثاله. كان يقترب منهم بفرحة، وإذا صدق ظنه، فأصواتهم لها نبرة مألوفة، حناجرهم جهوره تصيح فيرقص لها قلبه. ولأنها وصلت إلى مسامعه كاملة، لا نقصان في حروفها، صاح بما يملك من طاقة: هين، يا ناس .. هجان الغانم يا خالي. من الطـرف الآخر كان يصيح أحدهم، من الطرف الآخر على ظهر السفينة، كان يصيح: نعوم يا ابن غانم .. نعوم يا هجان. كاملة دون نقصان. فصات وشارة يده تلعلع في الهواء: إني خليل يا خالي .. تراكم .. خذوني معاكم.
رفعوه إلى السفينة معهم. كانت آتية بتجارة الشمال، تحمل الأقمشة القطنية والنّيلة لتنحدر معها إلى الزور الأدنى، مروراً بالدير والبوكمال، في طريقها إلى العراق. كان أخو دلة هجان الغانم، أحد أصحابها الثلاثة في هذه السفينة، ابتاعوها بعد حل شركة الهنـد الشرقية. وكان اذا ما مر من الجوبة يرسو مع طاقم السفينة أسفل البستان لساعات، يتبادلان ما يحتاجونه للطريق مع أهل البلدة، ولكي يتملى وجه أخته الذي كاد أن ينساه.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alhawwaij.ahlamontada.com
 
صدى الزور البعيد – الفصل السادس
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 19 )
» صدى الزور البعيد ... الفصل 17
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 18 )
» صدى الزور البعيد .. الفصل 13
» صدى الزور البعيد .. الفصل 12

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الحوايج :: الفئة الأولى :: منتدى الادب والثقافة-
انتقل الى: