Admin Admin
عدد المساهمات : 631 تاريخ التسجيل : 01/12/2009
| موضوع: صدى الزور البعيد .. الفصل الرابع . الثلاثاء فبراير 07, 2012 4:02 am | |
| صدى الزور البعيد .. الفصل الرابع .
من يذكر تلك الأيام، فإنه سيذكر سنة الجراد، سنة الماسيس(1): "ما يره فورتوتيس باجانومين (2) ". وسيذكر أيضاً هالة القمر. فبعد أيام من بناء السدة .. ومن هالة القمر، أخذ النهر يضطرب. قال عبد الله لإبنه جاسر بينما كان جالساً فوق السدة ينظر الى النهر بتحد: يعني دأبه يصل نصف بدنة السدة، وما يتجاوزها يا جاسر. لكن النهر في اليومين التاليين اتسع أكثر، وأخذت المياه تتصاعد. وفي اليوم التالي، بلغت المياه منتصف أرتفاع السدة، راحت تتمرغ هناك وتتلوى، ترتطم بجدارها دون هوادة. وظلت تصعد كل يوم، حتى جاء اليوم الذي بلغت فيه ذرى السدة، ونشأت تتجاوز قممها باضطراب. ومن بعيد رأى جاسر أن لون المياه تغير. وبدا النهر يحمل في أحشائه الغثاء والمغرة، جذعان الشجر. وأخذت بين الفينة والأخرى تمر من جانبهم قطع الخشب، أو أثاث يشير إلى دمار حل في الأراضي. وراح البستان يمتلئ بـالروث والطمي... حتى جاء الهلاك. "ماسيس" لم يبعث الطمي والمغرة … بل كانـت تـمر من أمامهم مفاجآت الهلاك مسرعة. أجساد لحيوانات منتفخة، شـدف خشب محترق، آواني مهشـمة، قدور وفدادين حراثة، سقوف بيوت، جدران وأروقة، السمك، أجساد لأرواح ميتة، أصابع بخور، وأثواب زفاف، اللعنة ثم الأغلال الممسوحة*(3) .. كان "ماسيس" يرسل كل الذين فروا بأرواحهم عبر الحدود .. .
في اليوم الذي وصلت المياه جذع شجرة زايد، استيقظت هدلة مضطرمة، قبل أن يرفع "أحمد الذيب" آذان الفجر، فتوجست أن المياه تدنو، وصوت دومانها قريب من أذن منصتة، كما أن النداء يأتي من السقف أو من الناحية الأخرى. خمنت وعيناها ما زالتا تتحسسان اليقظة، أن الأمواه الراكضة سوف تسيل عليها من نافذة السقف المغطاة بحجر الطوب، ستدخل من السجوف، أو من تلك الأنحاء التي تتسلل منها أشـعة الشمس، من الفتحات العميقة في قلبها. أرادت هدلة أن تنهض، لقد استيقظت، حاولت أن ترفع عنها اللحاف الصوفي، تبتعد عن أبي محمد، تلمس الأرض بأطراف أقدامها السريعة، فتحت الباب، مضت مشدودة الى الحائط المطل على النهر، ووقفت هناك تستجلي الظلمة. استطاعت أن تميز شجرة زايد، لكنها لم تستطع أن تدرك: أين الظلام وأين الماء؟ كان العالم ظلمة وماء، حفيفا ثـقيلا للخراب. في ساعة السحر أطل محمد الرحبي، بهاجس مماثل. رأى هدلة من فرجة الباب المفتوح، ثوبها الخمري ملقى على جسدها اللدن، شعرها المشوش خلف ظهرها. وراح يقترب منها بسرانية، فاستمع بحنين الى رائحتها البرية، كما رأى بكلتا عينيه بحة الصباح وهي تطير من صدرها الواسع: اشوف النهر يريد يطوف. تراه أخذ يدك الشجرة. قالت: اسمع. قالت: باكر الغوالة تصل الحوش. قالت: اسمع، تدك شجرة الزايد. فخرجت سمكتان شاحبتان من النهر ثم قمستا فيه مرة ثانية. بداية النهار بطيئة، تحمل الترقب، فبين الحين والآخر يعود جاسر راكضاً ليقول، إن الماء لم يهدأ بعد، يرتفع، سيغمر الشجرة ( يا أمي ) – أنظري إلى السحاب أنه ينـز – فتقول له أمه: ما شأن السماء؟ ان الأمر في الأرض. وقال أبوه: اخفض عينيك .. فنظر الى السماء، وكان يظن أن جاسر ينظر الى الماء وأن الماء يهم في الدخول.
/ سيغمر. من فوق السد نظر الى الألسنة الثمانية، وكانت عيناه تجولان في عينيها زورقي السماء. فنظرا معا الى ألسنة التنين تصطاد الزور. مساماتها تخللت في مساماته، فجذبته وجذبها، وابتعدا... فالطمي سيغمر، لسنين طويلة قادمة./
الفكرة التي دارت في ذهن محمد قبل أيام، استيقظت اليوم وتوهجت. عيناه الدمويتان: عيناه الدمويتان لأن الدماء كثيرة وسارحة في ارض الخليقة، لذا عيناه الدمويتان كانتا تنظران الى المشهد غاضبتين. وعند الظهيرة أدرك الأب بما يفكر فيه الابن، فأعطاه عينيه بينما كان يدرج لفافته قائلاً: يكفينا مشكلات يا محمد. فرد عليه: يا با تراني ما أقبل الظلم! فأجاب ابوه: وحده الله يا ابني يمسك الماء .. وما نريد مشكلات.
هبط العصر. جاء من السماء غاضباً، هبط على سطح العلوة، وسار بهوادة على الضفاف العائمة. عرف أن محمد وقف مع هدلة في صبـاح اليوم. وكانا ينظران الى النهر غاضبين. محمد يقرع فمه باسنانه النحاسية، يقضم الهواء الذي ملأ العالم، قال لهدلة: ول والله شبر ثاني يتقدم النهر، راح اكسرها يا هدلة.
مرّ على العلوة، وكاد يتوارى، انفق ما لديه من رغائب وأمان، ولم يبق شيء، اراد ان يرحل وينتهي، غير أن محمد الرحبي رافقه إحساس أن الحدث ينتظره، انه واقف ينتظره، قليلاً، العصر في طريقه، فصرخ في بئر الفضاء الواسع: توقف! كان أبوه يجري وراءه، وخلفه جاسر. حسن تركه يفعل ما دار في رأسه، قال لأبيه: اتركه يا ابي .. والله اذا ما يسوّيها هو، آني أسويها .. أتركه. عقص كلابيته، وربط أذيالها في وسطه، ثم انحدر يحمل المسحاة ماراً بين الرجال المتأملين: يسوّيها .. ؟ والله يسوّيها وتشوف .. هو صالح الساير يدري؟ واذا يدري بس طافت ..! مرّ بالبستان ووصل الى نهايته، لمح من بين الاشجار شخوص كدرية، فتذكر شجرة النخيل واهتزازها، تابع جريه تجاه سدة الساير، انحرف نحو اليمين. كانت السماء فاطمة ترتعش في قلبه. وهو يركض انحدرت مدامع باردة من عينيه وخضلت وجهـه الغاضب. صاحه أبوه: ارجع يا محمد بلا مشكلات. وشد قبضته على عصا المسحاة، وتلمس بيده الأخرى مقبض "الكردة" المعلقة الى وسطه، ونفسه تقول: ها الكردة. اجتاز رأس سدة الساير، ابتعد عنها، ثم عاد اليها وهو يقول: من هين أضرب يا ابن هدلة. حين رأته كدرية جرت عائدة الى سرايا صالح الساير، قالت لصالح وصدرها ينتفض كسمك الضفة: شايل سيف الكردة والمسحاة .. اعجلوا لا يكسرها! وتراءى لصالح ان كسر السدة سوف يعني ان أكثر المياه سيندلق الى المنخفض، بين العلوة والجوبة، ثم ستسرب المياه بيسر الى بساتينهم وأشجارهم. والطمي سيغمر الأرض ويغير معالمها. بدا له أن الخطر سيتفاقم. وإن كانت المياه قوية، فستصل ديارهم ومآمنهم. فأسرع الى ولده خليل قائلاً بتلعثم: يابا .. خليل وَلْ والله .. حسيت بها .. يابا يا خليا .. روح .. اليهم، العسكر وقل لهم ابن هذول سوّاها، يعجلون. فانطلق خليل الى الزاوية البعيدة، وبقلب لا يفارق صوت المرأة التي سمعها في الظلمة ترجو والده أن يكف. كان يود لو يصاب بالصمم على أن يسمع ما جرى. همهمت بألم: بس. وبحس الحنين الذي سيصيبه بينما يطوي مسافات العودة المذهلة من عينتاب، هرباً من الحرب، تصور أنه أساء الظن بأبيه وبكدرية، لذلك ارتجى الله أن يصل العلوة، ليرى في الدقائق المتبقية كدرية، ثم ليسامحه أبوه. مضى متسللاً في صوتها الخافت، الى الزاوية البعيدة من قلبه، وشبح محمد الرحبي مرسوما أمامه يهدم السدة. وباستمرار كان خياله ينمو وهو في طريقه الى الشاويش ابن المضحي. تصور أن عايد الخضر هو الذي سيكسر السدة وليس محمد، ثم ظن انه ظل آخر لجاسر، ولقد أوحت عينا جاسر الناريتان بذلك لحظة إناخته في لعبة "الصميمة"، وما كان من جاسر ان يعتصر توقه الكامن، لولا مرور خليل من جانبهم. رآه خليل ينهض رافعاً صدره، كرجل عثر في الشرك الخفي. ثم تخيل خليلُ الشاويشَ ابن المضحي وهو يقول له عندما يشتكيه في هدم السدة، يقول: اذهب وانا وراءك يا خليل، بعد قليل. سيركب حصانه الأشهب، يتبند البندقية ثم يلكز عرف دابته كي ينطلق: أنا وراءك. يثبت البندقية كعمود رواق: بعد قليل انا وراءك.
كيف سيرفع ابن المضحي البندقية في وجه محمد؟ هل يستطيع ان يمنعه من كسر السدة؟ هل سيطلق عليه النار إن رفض الأوامر؟ هذه الأسئلة كانت تراوح في نفس خليـل، فيتصور ان ابن المضحي ينفجر من الغضب، يأمر رجاله بالقبض على محمد، فيدفعونه في النهر من فوق السدة، لكنهم سيتراجعون حين يرون عايد الخضر وهو يرقبهم من بعيد. وأما كدرية فستجعلهم يندفعون، يمتحنون رجولتهم أمامها فيصيحون به: وِلَكْ حدّر.. ولك ابعد وإلا نطخك. كان يمضي عائداً الى سرايا والده، وحين لم ير أحداً فيها أخذ وجهة السدة. وصل هناك فوجدهم يتطلعون برؤوس مفقودة، وقد غاب عنها التوثب وتوارى خلف قتامة الرجل. حتى عبدالله لم يتوان، أراد أن يرده أيضاً، فلم يقدر، رفع محمد صوته في وجهه: وقف حدّك يا عبد الله .. اللي يتقرب يسيح دمه .. إني ميت .. إني اليوم .. اللي يتقرب. وكانت كدرية تنزف من المحاولة الفاشلة في منعه كسر السدة، وقد كشفت عن صدرها المفتوح، مستلقية وحولها هدلة ودلة وخالتها خود. وصالح يرقب نفسه العـاجزة. بينما بدأ نشيش الماء يتغلب على هول السدة. نـاداه صـوت من أعلى العلوة، طار فوق رؤوس: اضرب يا ولد. فغمرت المياه الأرض وتراجـع الرجـال والنساء، حملوا كدرية من ابطيها. وقال رجال الشاويش: وقف حدك يا وليد. لكن محمد لم يسمعهم، تابع بنهم. فرفعوا البنادق، وجهوها نحوه، قالوا نطخك هسّع وقف. لم يسمعهم، سمع صوتا من فوق الرحبة يقول: لتغمر المياهُ الأراضي.
--------------- 1- آرارات . 2- انهم يفصلون الأم عن الابن 3- (الميثولوجيا الأرمنية) الأغلال الممسوحة: أغلال اردافست، ما فتئت تمسحه السنة الكلاب حتى اذا تحرر من قيده أهلك الأرواح والنهر. | |
|