Admin Admin
عدد المساهمات : 631 تاريخ التسجيل : 01/12/2009
| موضوع: رواية صدى الزور البعيد .. الفصل الأول الثلاثاء فبراير 07, 2012 3:27 am | |
| رواية صدى الزور البعيد .. الفصل الأول
حسين سليمان – هيوستن
للمرة الأولى فقط، فتح محمد عبد الله الرحبي عينيه على عالم جديد. كانت الأشياء، في لحظات الزمن تلك، في مكانها الأول، فالضفة الكربونية الملتصقة بصفحة وجهه تناديه بلسان الماء المتدفق، وتتغلغل في مسامات ساعديه المتعرقتين، وجسده المتهالك على السدة متناغم متدفق في وحدة كلية. كان يذكر أن جانباً من الشمس قد استند على منكبيه حينما وصل الى وضع النهايات الأخيرة لترميم السدة، وصفيح مياه النهر الحاد الممتد على مدى الأفق، صار رويداً رويداً يقضم وجهه الأسمر، إلا أنه تابع في تثبيت الصخرة الأخيرة على تلة السدة. كان يئن ويلهث في تركين تلك الصخرة البيضاء المسننة. وفي البداية راح الماء الى دوائر ذبابية باهتة لم تقتحم عينيه فقط، بل تناولت أيضاً ذاكرة الحب لديه. فطيف فاطمة، حين رفـع رأسه، تصدع في مخيلته وزال، وتشكلت بدلاً منه خيوط ذباب، وسع مقلة العين، كما خامر احساسه شـعور أن جبهته ستندلق ساخنة مريرة، ومن يافوخه يصعد دخان، وأدرك بغموض أن قلبـه قـد هـرم في الثواني الأخيرة من سنواته السبع عشرة. غير أن مشاعره تجانست بعد ذلك مع العلوة كلها، اختفى الصوت، وصارت لغة أخرى تمتلكه لمصير اللحظات الباطنية، فكلما اقتربت منه الشمس أو ابتعدت، كلما يزداد ذلك الشيء في الخارج كان يزداد يقينا أنه يقترب من الجانب الآخر من العالم، عالم الإيماء والصمت السري. تحول جمع الرجال الذين كانوا ينادونه لتناول الطعام تحت شجرة زايد الى حلقات تطير في الفضاء وترتفع فوق أغصان الشجرة العارم. استدار برأسه قليلاً الى الخلف كي يقول لهم إن ضفة النهر وتراكمات السدة وصخورها، شدف الأشجار المغروسة في مقدمة سطحها يراها على غير سكونها المعهود، شيء من الصدى كان يرفعها الى الأعلى، وكانت السماء تغوص بتكوين الأرض، فأراد أن يرفع صوته ويصيح حتى الرحبة تكاد تحلق هي الأخرى في السماء. لكن والده عبد الله الرحبي، تحت الشجرة البعيدة، غلبه شعور امومي أن هدلة ستهبط باتجاه ولدها الذي ستأخذه جنية النهر"حربة النجم" استدار بجذعه ناحية العلوة وفمه ممتلئ بلقم العصيدة الساخنة. كانت الطريق الهابطة اليهم من سفح العلوة فارغة، حتى من النسمات التي انتشى بها حين استيقظ على صياح ديكة أبي فاطمة، فرغم التعب الذي شعر به من عمل البارحة، الا انه أملَ في الانتهاء من بناء السدة. ومع شروق الشمس، ازدادت عزيمته، وتوثقت حينما نظر الى عمله الكبير. وقال في نفسه: لولا جملي محمد ما خلص بالسرعة هذه. وقد توقع عبد الله الرحبي، السليل لأسرة انحدرت من قلعـة الرحبة، بأن ترميم السدة العجوز لهذا العام سيكون صعباً. فالأمطار التي لم تنقطع من السماء، والثلوج المتساقطة فوق مرتفعات آرارات، كما علم من القوافل الآتية من عينتاب والقسطنطينة، جعلته يخمن الحد الذي سيبلغه النهر في فيضانه لهذا العام. كان منظر البستان، جانب النهر، الذي سيغمره الفيضان يفزعه بأسى، فالأشجار ستحرقها المياه، والنبت الأخضر سيختنق في ظلمات الطمي العكر، والمياه ستطم عنق شجرة زايد. هذا اذا وقفت عند ذلك، مثلما حدث منذ ثماني سنوات، وذهبت ظنونه الى أن الطمي سيدخل البيوت ويجتاح الدروب، ثم يطاردهم الى مكانهم الأول في قلعة الرحبة. النهر سيعود من جديد الى الإتساع. عبد الله الرحبي أوضح قبل أيام أن ترميم السدة ضرورة لاجتناب المصير الأسود الذي حل بهم نتيجة الفيضان قبل سنوات. مستوى النهر ينداح عن ضفته ويقترب قليلاً فقليلاً شرقي أراضي البستان القائم على سفح العلوة. وقرر مع تراك الناصر أبي فاطمة ورداد الزغير وأبنائهم أن يتولوا أمر الترميم. استغرق تدعيم نواة السدة بوحل الغضار والتراب الكتيم الأحمر (الحرى) أربعة أيام، وأشار عبد الله الرحبي على تدعيم النواة قبل إقامة جسم السدة وبدنتها. وبيّن أن النواة أساس السدة فإذا هزلت تبددت السدة، مثل النخيل فكلما علت رؤوسها تغلغلت جذورها عميقاً في باطن الأرض. أما الأيام الباقية فكانت لإشادة جسم السدة المكون من غطاء الحصى والحجر وشوك العاقول ومن ثم ردم كل ذلك بالتراب والرمل، وظلت المهمة الأخيرة بعد غرس شدف وجذوع شجر الحور والكينا عند مصد السدة، تدعيم سطحها بالحجارة البيضاء الكبيرة. اقتلعوا شدف الحور وجذوعها من دغلة الحويجة القابعة وسط النهر. وتمت النقلات في طرادة محمد الرحبي المزودة بحبلين طويلين من الكتان وفؤوس التحطيب الثلاث. وفي أول نقلة تحطيب على ظهر الطرادة قام بها محمد وحيداً دون مساعدة أحد. وكانت نشوة غريبة على قلبه، مضى وحيداً، وهمـه الوصول الى الضفة، ضفة الحويجة المحاطة بمياه النهر. وكانت فاطمة ترقبه من بعيد على سفح العلوة. ويذكر أن الشمس كانت تداعبه على سطح النهر وهو في طريقه نحو الحويجة، وتدخل بين آنة وأخرى نسمات رقيقة فينسى، ينسى أن يلتفت الى الوراء، طيف فاطمة حين زم كلابيته وقفز من الطرادة الى ضفة الحويجة، واقف هناك، تحفر الآمال في جسده المتعب. فاطمة بعد أيام تذكرت أيضا ان محمداً، حين أصبح وسط النهر، تمايل مرتين وكاد أن يسقط من الطرادة. وكانت في وسط الحويجة شجرة مترهلة عجوز تتمايل بالسنين التي قضتها في مكانها، فمنذ زمن كانت نبتة صغيرة زرعتها امرأة امضت عمرها في قلب الحويجة تستنبت التعاويذ. وظنّ محمد أن فأسه ستهمّ بفتح ثقب كبير في بطن الشجرة. فاقشعر مع كل ضربة فأس، تخيل أن الشمس تتخفى بوجه قمر في سماء الدغلة، وتنزل عليه، وسمع صوتا فلم يقّدر فيما إذا كان صادراً عن القمر الهابط أم عن أعماقه الغريبة، شيء ما راح يئز في مسامعه، حول رأسه المعفرة بأوراق الشجرة الخريفية، ظل الصوت يتقدم ويعلو كدخان حطب، اقترب منه كافعى، راح يدور، سدّ أذنيه براحتيه الخشنتين، لكن الصوت كالطاحون، ورأى الشجرة المتكئة على مفصل جذعها تتمايل بتثاقل، بقي في مكانه، تسمرت عيناه في محجريهما، ولم يع نفسه إلا حين أيقظه حامد الذي تبعه سباحة قال: إيش بك نايم، نأخذ الشدف من الضفة أخيّر. في صباح اليوم الأخير، سيدكون سطح السـدة بما تبقى من الحجـارة البيضاء الكبيرة. قام عبد الله في بث الأمل في نفسه رغم تعب الأيام الماضية. استيقظ على صياح ديكة تراك الناصر واستطاع أن يستحث رئتيه على استنشاق نسمات بكر، يشرب القهوة المرة وينعش نفسه بمنظر السماء الغض. غير أن أعماقه كان فيها خوف آخر، ذلك إنْ تم بناء وترميم سدة الجوبة المرتفعة القوية. لكن سدة العلوة بانت واتضحت متوازية مع شريط النهر. ولم يبق منها حتى تكتمل سوى دبكة الرقص التي ستلفها فرحاً وبهجة. كل شيء انتهى، واذا كان الأمر كذلك فإن السدة ستحميهم من هيجان محتمل للنهر، قوية ونواتها متينة، لا يستطيع النهر أن يبلغ ذراها، وعايد الخضر "اخو هدلة" نفسه اذا وقف خلفها، على طول قامته، فلن يستطيع رؤية سطحها. كان الصبح قد دنا وطار الفجر عن العالم، ومن خلف الحائط ناداه تراك الناصر، قال له: " تحدّر يا أبو محمد، لزوم ما نبطي اليوم وكاد نخلص انشاء الله". وسمع ابنته فاطمة تقول لوالدها: يابا العصيدة علينا ظهر اليوم.
لم يكن بناء السدة لحماية بيوت العلوة فقط، بل لحماية البستان المنبسط على سفحها. في طرفه كانت شجرة التوت الكبيرة، شجرة جده زايد، الذي قال حين زرعها: ستكون هذه الشجرة شاهداً على العلوة. وحين كان يتذكر ملامح العلوة يقول: انها وسط المياه، تصعد كحويجة. ذلك قبل تراجع المياه عن جدران الرحبة. أما الطرف الجنوبي للعلوة، فينحدر سفحاً مطمئناً ثم يمس النهر بجرف يزداد عمقاً كلما ابتعد عن العلوة، حتى ليبدو من بعيد وادياً يحته النهر كل ساعة وكل يوم. وهذا ما كان يشغل تفكير السالفين، حتى وجدوا الحل، بإقامة لسان صخري ( هواشة ) في منحدر السفح، يمتد الى داخل الماء ليمنع تآكل الجرف وانهدامه. وفي هذه الأيام بدأت المياه تقترب من سطح اللسان القديم، فتوقع صالح الساير انها ستلقى ذراه في الأيام القليلة القادمة، وستصل يوماً الى بساتينه وبيته الكبير ( سرايا الجوبة) كما كانوا يسمونه. التمعت عينا كدرية حين رآها محمد الرحبي وهي بجانب السدة، أدرك انها تطوّف عينيها الساحرتين على ذلك العمل الذي أنهك قواه، فالتفت من فوق السدة الى اللسان الصخري البعيد والذي أقامه صالح الساير، فوجده منخفضاً عنها، لا يقاوم دفقات نهر أواسط نيسان، وأيقن أن صالح الساير سيقوم بتدعيمه ورفع قامته. وفي نهاية عملهم من بناء السدة سيقوم رجال صالح الساير برفع قامة اللسان، ولم يخطر في بال محمد انهم سيصلون الى سدتهم نفسها، بوصل المسافة الفاصلة بين اللسان والسدة بسدة أخرى. ذلك ما كان يؤرق حقيقة عبد الله الرحبي. فاللسان سيدفع قسماً من المياه الى سدة الرحبي. قال عبد الله الرحبي لابنه، موضحا مشروع صالح. قال له: هذا يريد يهدم بستاننا قبل بستانه. ولم يكن هناك تحت شجرة زايد سوى خمسة رجال، تفرق الآخرون، ذهبوا، لم يبق الا محمد فوق السدة يركن الصخرة الأخيرة على سطحها. ومن بعيد تناهى الى مسامعه أصوات رجال صالح الساير كانوا قد بدأوا في بناء وترميم السدة، ويكاد يميز من بينهم صوت كدرية يعلو أحياناً ثم يغيب. الطريق المنحدرة كانت فارغة، فاطمة التي صعدت قبل قليل الى العلوة بعد أن جلبت لهم فرش العصيدة لم تترك على الدرب أي اثر، حتى النسمات الرقيقة التي بعثها سطح النهر في أثرها اختفت وزالت، جف الجو في دقائق، وسرى في النفوس ضيقُ حديد، ولم يستطع عبد الله الرحبي ان يبعث لقم العصيدة الساخنة الى سقف فمه، كانت يده ترتعش وهو ينظر الى ولـده المترنح. ولم يشأ أن يصدق تعليق فاطمة الطيب على ابنه يوم أمس، لما زعمت انه يخيفها متقصداً عندما كان داخل الطرادة، قالت له وهي تجلجل ضاحكة: تخوفني .. ول .. ما لي قلب، والله حسبتك .. بعيد الشر يا محمد. نظر من فوق جذعه المستدير الى منحدر العلوة وتساءل: هدلة! لحظات الزمن كانت تقييده، فرمى عينيه الجاحظتين الى دائرة الرجال الذاهلين، ولم يرد أن يصدق ان خليل فزّ كالمخبول باتجاه السدة دونما صوت، قفز كالطير وتبعه بقية الرجال، وسمع عبد الله حين خانه التحفز صوت هدله من ورائه يولول: يا ولدي .. الشر عليك .. يا ولّي حربة النجم. | |
|