Admin Admin
عدد المساهمات : 631 تاريخ التسجيل : 01/12/2009
| موضوع: مغامرات سائح في الجبال الخضراء-أذربيجان الأربعاء مارس 16, 2011 9:22 am | |
| مغامرات سائح في الجبال الخضراء-أذربيجان
وجوه عربية، ليست بعربية. كلمات تبدو عربية لكن اللغة أيضا ليست العربية. انتابتني الحيرة، وأن أحدق في وجه موظف الجوازات الباسم. بإنجليزية متكسرة تواصلنا معا: - "عربي..رائع..أتمنى لك إقامة طيبة.." عندما سمعت كلماته تلك شعرت بألفة غريبة نحوه. كأنني أعرفه من زمن بعيد..تمنيت لو أجلس معه، يحكي لي، وأحكي له، لكن حاجز اللغة، حاجز الغربة، وحاجز مهنته؛ حواجز كثيرة بيننا، فكرت في أنه ما زال أمامي أسبوع كامل أقضيه هنا. سأتجول، وأحكي، أتعرف على آخرين، وأفعل كل ما يحلو لي.. سأخترق قلب مدينة (باكو) الصامتة، وستسقط الحواجز كلها. في الطريق إلى الفندق، وعبر نافذة السيارة الصغيرة تتابعت الصور كلقطات منفلتة من الذاكرة..الجبال الخضراء، الرائعة، تبدو ممتدة بلا نهاية، شيء يذكرك بجبال لبنان أو سويسرا ، لكن تلك الجبال تمتلك شيئا خاصا بها؛ شيء لا تستطيع تمييزه أو الإمساك به. جبال أذربيجان؛ ما الذي تخفينه خلف قناع القسوة الصخرية..هل سأعرف حقا؟..جل ما أخشاه أن أكون مثل أي سائح آخر. يضع خططا عريضة.. يحلم بأن يرى ما لم ير من قبل، ثم يعود بلا شيء.. فقط ما عرفه من جاء قبله، وما سيعرفه من سيجيء بعده؛ القشرة الخارجية البراقة التي تحجب دائما الجوهر. بمجرد أن دلفت إلى حجرتي حتى فتحت النافذة على مصراعيها.. رائحة الهواء النقي المعطر المنعشة تفتح حواسي كلها للحياة..أريد أن أعيش الحياة كما لم أعشها من قبل.. استرحت قليلا وقبل أن نبدأ جولتنا السياحية؛ كنت قد قررت منذ اللحظة الأولى أن استغل أية فرصة للهروب من دائرة الدليل المغلقة، والإفلات من حصار كلماته المحفوظة المملة..كنت أريد أن أعرف بحق، وكنت مستعدا لعمل أي شيء في سبيل هذا.. لم أكن أعرف أن نار المعرفة حارقة، وأنني سأكتوي بها بأسرع مما تخيلت. *** الجولة الأولى كانت في متحف المعروضات الإسلامية؛ مصاحف قديمة من القرون الماضية، حفظت تحت الأرض، خلال حقبة الاتحاد السوفيتي الرهيبة، لحمايتها من الضياع، ولم تستخرج سوى بعد الاستقلال.. برغم من مللي من مثل تلك الجولات المرتبة، إلا أنني لم أملك نفسي من الانبهار، كيف ظل ذلك العالم حيا، بالرغم من كل ذلك القهر..ظلت أنفاسي متلاحقة حتى غادرنا المكان.. اصطدم كتفي بكتف أحد زملاء الجولة فابتسم معتذرا بطريقة مهذبة..كان يتحدث إنجليزية سهلة واضحة على على الرغم من كونه بريطانيا؛ أو هذا ما اعتقدته أنا في البداية، قبل أن أفهم أنه من مقاطعة بريتاني الفرنسية وليس من بريطانيا كما فهمت سابقا، بذكائي المعهود. لهذا السبب كانت إنجليز يته مفهومة بالنسبة لي، فكما يقال؛ من يتحدثون الإنجليزية بصورة سيئة يفهمون بعضهم جيدا. بعد ذلك أخذنا جولة مملة في مناطق صناعة السجاد الوطنية..قال صديقي الفرنسي معلقا: - "إن راتبي خلال عام كامل لا يكفي لشراء قطعة صغيرة واحدة من هذا السجاد.." وكان محقا فلقد كان سجاد التصدير الأذربيجاني باهظ الثمن لأنه يصنع يدويا، وقريب من جودة السجاد الإيراني الشهير. أخيرا تذكر الدليل أننا كدنا نهلك جوعا فقادنا إلى مطعم يقدم وجبات محلية، ومن جديد وجدت اللمسة العربية؛ كان الطعام قريبا جدا من المزاج العربي؛ اللحوم المشوية، والخضار المحشو بالأرز، وباذنجان مقلي؛ الشيء الوحيد الذي لم يرقني هو التفاح المقلي؛ لم استسغه مطلقا، لكن الفرنسي أقبل عليه بشهية مفتوحة. لم استغرب هذا من فرنسي مثله يعتبر حساء الضفادع أفضل وجبة في العالم. أراهن لو وضعوا أمامه قطة مشوية لأقبل عليها بذات الاهتمام. لم يكن اليوم يسمح بالمزيد، لذا فقد عدت إلى الفندق. ارتميت على الفراش بثيابي كي أموت إلى اليوم التالي؛ حين سأستيقظ وأبدأ مغامرتي الحقيقية. *** الليل يهبط سريعا وأنا وحدي في قلب الجبل في جزء بعيد تماما عن العمران. لا أجد ما أحتمي به سوى ذلك الكهف الذي لا يريحني كثيرا انعكاس الظلال على جدرانه، والصوت الغريب الصادر من أعماقه المظلمة.. تبا ما الذي فعلته بنفسي. ولكن من حقك أن تعرف ما الذي قادني إلى هنا.كنت قد عقدت العزم على الإفلات من الدليل في اليوم التالي.أخبرت الفرنسي بنيتي. حاول إثنائي عن الأمر لما قد يحمله من خطورة لكنني لم أعبأ لكلامه. استغللت أول فرصة سنحت لي، وانطلقت على غير هدى. بهرتني المراعي الخضراء، وجوه الفلاحين الباسمة، ذلك العالم الذي أشعر انه قريب مني ، وبعيد عني في ذات الوقت. تجولت طويلا وشربت من مياه النبع الجبلي الصافي بمذاقها المسكر الرائع. سحرني كل شيء، لم أنتبه إلا عندما أدركت أنني لا أعرف طريق العودة، وأن وجوه الفلاحين اختفت، وأنني صرت وحدي تماما.. *** غطى الليل بوشاحه كل شيء، وبدا الجبل موحشا، ومخيفا؛ فيما عدا ضوء القمر المستدير في السماء، لم يكن هناك أثر لضوء. اسمع عواء ذئب بعيد، فارتجف، وانكمش في مكاني أكثر، حتى لمحت تلك النار، بالأحرى رأيت ذلك الدخان فعرفت أن وراءه نارا. هل اتجه إليها؟؛ تساءلت في نفسي ..الحركة في ذلك الظلام، ليست مأمونة، فلو تجاوزنا عن وحوش الليل، من البشر والحيوانات فقد تزل قدمي، وأسقط في الهاوية بمنتهى السهولة. ربما من الأفضل لو ظللت مكاني.ترددت قليلا ثم توكلت على الله، وقررت السير على ضوء القمر على أن أسير بحذر، على الأقل هذا أفضل من الانتظار هنا للأبد. خطوة فخطوة، أخيرا لاحت النار، ورأيت هيأة رجل جالس أمامها. كان يشوى لحم شاة على شواية بدائية من الخشب. اقتربت أكثر وأنا أفكر فيما يجب أن أفعله؛ فالرجل حتما لا يفهم العربية ولا أعتقد أنه يفهم الإنجليزية. سيكون الأمر مشكلة بحق.قلت الكلمة الوحيدة التي كنت متأكد تماما من كونهم يفهمونها هنا: - "السلام عليكم.." - "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.." ولدهشتي أتبعها ب...: - "تفضل.." بلسان عربي مبين قالها..فرددت دون وعي: - "هل تتحدث العربية.." - "بالتأكيد..لمَ تبدو مندهشا هكذا؟" لم أرد، فقط جلست. اقتربت من النار لأدفئ يدي الباردتين. بكرم عربي أصيل، وضع الرجل الشاة كلها أمامي. حاولت الاعتذار فبدا في عيني الرجل شيئا كالتوجس فقطعت قطعة على الفور، ودسستها في فمي، وعندها زال ما كان به. رفعت عيني أتأمل وجهه الصلب، الذي انعكست عليه إضاءة النار. لم أستطع أن أحدد عمره بالضبط، قد يكون في الثلاثينات أو الأربعينات أو الخمسينات، فلقد كانت لحيته الكثيفة تعطيه عمرا قد يكون أكبر بكثير من عمره الحقيقي. ابتسم عندما لاحظ نظراتي المتفرسة في وجهه: - "لمَ تنظر إليّ هكذا..هل تحسبني غولا؟" شعرت بمزيج من الحرج والدهشة: - "غول.." - - "نعم، ألا يقولون أنها توقد نارا لتجذب ضحاياها المارين في الطرق الموحشة ليلا." ابتلعت ريقي بصعوبة. لم يكن كلام الرجل مريحا. قهقه ضاحكا أمام ملامحي المنزعجة، وربت على ظهري قائلا: - "لا داعي لأن تفرغ إلى هذا الحد..الغول تكون عادة امرأة، وإنني لست امرأة كما ترى..هههه..كما أنه ليست لدي قدما ماعز.." وجذب طرف رداءه كاشفا عن قدميه الحافيتين الخشنتين.. يبدو أن هذا الرجل يحب الدعابة إلى حد مقلق.. احتبست قطعة من اللحم في حلقي فمد يده بسرعة وناولني إناء فخاري به ماء بارد، ثم قال وهو يتأملني: - " أنت ضائع ..أليس كذلك؟" هززت رأسي، دون أن أتكلم: - "غريب.." ومن جديد هززت رأسي. توقعت أن يسألني عن اسمي أو بلدي أو أي شيء، لكنه نهض فجأة في حماس مباغت قائلا: - "لو كنت قد انتهيت من طعامك؛ فقم أوصلك إلى العمران.." كنت قد انتهيت بالفعل من الطعام؛ فنهضت. سرت بجواره، وهو يمشي وسط الظلام بخطوات ثابتة كأنه يعرف كل حصاة في الطريق, الحقيقة أنني بدأت أشعر بالخوف..إلى أين يقودني هذا الرجل؟.. أيكون قاطع طريق؟، ولكن لقد كان يستطيع بالفعل أن يسلبني نقودي ويتخلص مني حيث كنا، لم يكن يحتاج إلى كل هذا المجهود، خاصة لو قارنا حجمه الضخم بحجمي الضئيل، كانت كفته ستكون الراجحة حتما. تمنيت أن يقول أي شيء لكنه ظل صامتا، وهو يقودني عبر الطرق المتعرجة المظلمة. أخيرا لاحت أضواء من بعيد. قررت أنا الخروج عن الصمت: - "ألا يمكنني أن أعرف من أنت حتى أشكرك؟" لاح شبح ابتسامة على وجهه: - "من أنت ومن أنا؟..ليس مهما على الإطلاق.." كان الطريق الآن قد أصبح واضحا على البعد..سرحت عيناي تجاهه وعبارة الرجل الغريبة تتردد في أذني.التفت إليه لأشكره للمرة الأخيرة قبل أن اتركه لكنه لم يكن هناك.. كان قد اختفى. *** عدت إلى الفندق، وعلمت أن الفرنسي، جعلهم يقلبون الدنيا بحثا عني؛ هذه فائدة الصداقة حتى لو كانت عابرة. كانت رحلة لن أنساها أبدا، ولكن هناك شيء أخير يجب أن أعترف به، قبل أن أنهي مذكراتي هذه؛ ألا وهو أن تلك الحادثة الأخيرة لم تحدث أبدا!!..صحيح أنني ضللت الطريق، لكن لفترة وجيزة، وقد عثروا علي ّبسرعة عندما نبههم الفرنسي لاختفائي، أما تلك المغامرة مع شبح جدي العربي؛ فقد تخيلتها وأنا جالس أنتظر عثورهم عليّ، لكنها كانت أجمل من ألف مغامرة عشتها في الحقيقة. وكان عليّ أن أعود ثانية إلى بلدي، دون أن أعرف أكثر مما عرفه أي سائح عادي آخر. الإمضاء سائح عادي. | |
|