الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الحوايج

هذا الموقع مخصص لاخبار قرية الحوايج التابعة لناحية ذيبان -الميادين -دير الزور
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 صدى الزور البعيد .. الفصل ( 20 ) .. نهاية الجزء الأول .

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 631
تاريخ التسجيل : 01/12/2009

صدى الزور البعيد .. الفصل ( 20 ) .. نهاية الجزء الأول . Empty
مُساهمةموضوع: صدى الزور البعيد .. الفصل ( 20 ) .. نهاية الجزء الأول .   صدى الزور البعيد .. الفصل ( 20 ) .. نهاية الجزء الأول . Emptyالجمعة فبراير 24, 2012 5:09 pm

صدى الزور البعيد .. الفصل ( 20 ) .. نهاية الجزء الأول .

حسين سليمان - هيوستن .

عايد الخضر. وظهره المنتصب على الهيلوان الذي يخب بنشاط رغم شيخوخته، ورفض صاحبه إبداله، قال لوزنة التي لن تموت: هذا حصان غالي عليّ وما أبدله يا أمي.ورفعت وزنة أصبعها تشير الى عظام الهيلوان البارزة: وكفله عظام يا عايد، كافي .. اريحه على الأقل! فأجاب أمه: الهيلوان ما يرتاح الا للموت يا وزنة، واذا ما فارقته يوماً واحداً، وركبت آخر غيره يزحر بأرضه ويموت. يبقى يخب من البوكمال حتى الدير والقصبي، على طول الضفاف، وكثير من الأحيان يسلك طريق الضفة حتى الرقة، الى مضارب الشيخ حاجم. يمر بقرى الزور، سعلو وبقرص والموحسن.
وبعد هذا الانقطاع، وما زالوا في الدير، غاب، يمكن انه غاب عن ذاكرة جاسر. واذا غاب فلأنه البعد، وكان صغير السن بالكاد يدرك حوادث كسر السدة وبنائها، والوقفة التي وقفها عايد كما يزعمون في أعلى العلوة حينما كان محمد يكسر سدة الساير، ولم ير كيف طار الى كدرية وشالها على حصان الهيلوان وهي تنتفض فزعاً. وإن أدرك فإنه أدرك تعابير عايد الخضر وهو يحاول منع هدلة عن الرحيل. قال عايد لأخته هدلة: آني أروح على صربيا الى مقدونيا أروح يا هدلة الى تالي الأرض وأرجع ومعي حسن أرجع ومعي حسن يا هدلة.. بس انت ظلي بالعلوة!
في السنوات الآتية، سنتذكر عايد الخضر وهو في منحدرات أو مرتفعات العلوة البائدة، وهو الذي لا يفارق السرجان جاسر، في غرفته يتأمل الماضي، والحاضر. ولقد امتدت العلوة وصارت المساكن تقترب من أطراف قلعة الرحبة، واذا كانوا قد نزلوا يوماً ما من الرحبة، فها هي البيوت تتسرب، فوق الأرض، في محاولة متخفية للعودة الى الرحبة، وابتعدوا عن العلوة وهجروا النهر، وأخذت بيوتها تتقوض على ساكنيها فتنخفض، أو ان السفوح المحيطة بها ترتفع، وشمخت الأبنية ورفع الكثير مصاطب منازلهم، فارتفعت الدروب وغابت رويداً رويداً طبيعة العلوة، لقد غاصت بفعل الأهالي الذين رأوا انها محط غربان ونذر سوء، فانهجرت وأضحت خراباً. في السنين القادمة سيكون وقت لتنسم الرماد والبهتان، فيتقابل العجوزان، السرجان جاسر و ( عظام الكبة ) الشيخ عايد الخضر، يتقابلان في غرفة جاسر المطلة على النهر الأخير، ومن النافذة المحددة بالقضبان، سيتمليان انسياب النهر المتكاسل ثم يلتفتان هازين رأسيهما انه ما مضى من السنين حمل حياة واحدة، لا تتكرر .. ثم لا تتكرر، اما الآن فإن كل شيء تغير، أصبحت السنوات، الحياة، كأبنيتها، حديدا، خرسانة قاسية لا تميل مع الرياح ولا تدلف في المطر، ولا تنقل نشوة الهطول الى حيطانها وأراضيها.
وتراجع الأولاد الى حجرهم وغرفهم، وكانت البناطيل الضيقة الناصعة، والقمصان المزمومة ذات الياقات المخنوقة تعيق الالتفات والاستناد، والأحذية المختصرة في الأقدام الملمومة، تعيق نقل الأقدام من جانب الى الآخر. وتجد الأمهات المنحدرات من نسوة النخيل وكوخ الغرام .. اللواتي وهبن ساعاتهن للمدام جالسة أسفل شجر النخيل، في الحد الفاصل الذي يفرع النهر الى فرعين، فيمر الأول من أسفل الجسر الحجري، أول جسر في الدير، ويمر النهر الثاني أسفل الجسر المعلق. نسوة النخيل تعلمن ما تعلمنه من المدام التي وهبت نفسها للبقاء في سهول وبوادي الزور حتى بعد رحيل الفرنساوي، وكن ينتظرن ساعات رحيل أزواجهن لينزلن اليها وينتهزن فرصة ليسرقن النظر الى الحلقة المتحوقة حولهن. تطل الأمهات منادية الأبناء: تعالوا تعالوا .. انضبوا في البيوت.. تعالوا شوفوا أفلامكم المفضلة، لقد آن أوانها وصار لكم في الشارع نصف ساعة على الأقل، ونحن نخاف عليكم من السيارات، نخاف من النزلة الصدرية ومن ضربة الشمس، نخشى ان تتسخ ثيابكم، نخاف ان تتجادلوا فيقوم أحدكم بضرب الآخر، نخاف عليكم يا أولاد. وسأل جاسر نفسه بصوت مرتفع: أشوف يا الله .. انه نسوا اللعب، لعب الدروب والحارات.. ما ظل أحد يلعب لا ضايع ولا صميمة؟
واشرقت في ذاكرتهما السنوات البعيدة، كانوا يترقبون وقت بناء السدة فيتحلقون في حلقات الدبكة والغناء ويتم في جانب ثان اجتماع اولاد الصميمة، وكانت النسوة ترمق بفرح الفتيان الطائرين فوق ظهور بعض ومع أصواتهم: صلينا ما بطينا .. صلينا على الهيلوان. تنداح عواطفهم فتشرق وجوههم، وينتظر فتية آخرون غياب الشمس للتفنن في اختراع مخابئ جديدة للعبة الضايع، وينسمع في أنصاف الليالي ترداد أصواتهم المحمول بنسيم الليل: ضايع بالبلد ضايع .. ضايع بالبلد.

والآن وجاسر في دثاره، وقد فشلت محاولات شفائه، رجعت هدلة تدلق في فمه ترياق هنوف النجم. نبهتها شاها قائلة: يا فاينة بدل ما تندبيه، انت شربتيه شراب هنوف؟ فتحركت ملامحها في علامة نسيان ومفاجأة، ونهضت، ربطت بكلة شعرها وضمت وجهها. وتفقدت تعزيمة هنوف، فتهللت بشائرها، وندمت على نسيانها الرقية. فراحت تدلق الشراب في فمه وكانت تظن أنه الشفاء الذي يريدونه، وانتظرت هدلة الوقت كي يأخذ الشراب مفعوله، لكن حرارته ظلت تتصاعد وكمية المياه التي يطرحها تتزايد، ذلك كلما شرب من زجاجة الشيخة هنوف، فتوقفت، لكن شاها رأت ان مفعول الرقية غير فوري، قالت: يلزمه يا هدلة ثلاثة أيام أربعة أيام، كل شيء له وقت.
هذا الصقيع كأنه الشتاء بعينه يا هدلة. يحملني على تذكر الشتاء، رغم انكم تقولون اننا في الصيف، هذا ليس وقتاً للحر، ان القيظ الذي في الخارج يتحول في جسدي المرتعش الى برودة ساكنة تلفني بسماكة كبيرة، بطبقات من الحجر البارد، حجر الليل والمقابر، الهواء والخوف. والعالم أمامي عالم بارد، جامد لا يتحرك، لذا يا هدلة وقفت الأشياء، فأبطلت الحركة.
ونقله نوع من التأرجح، نقله بعيداً، كأن الدنيا أمالت كيانها الى زاوية سفلى، فارتفعت أقدامه الى مزوى الغرفة وانحدر رأسه الى أرض القاع. وعاد يسمع ما حدث وما سيحدث، نسي كم من الوقت مضى. وكان يسمع نواح هدلة، وهي تتمايل كالنخيل في وجه الهبوب، مرة يأتي صوت الأنين من ناحية ومرة من اخرى، وأحس جاسر وهو في أرضه بمرونة جذع هدلة، وبارتفاعه، ينزل عليه الصوت من فوق، يتدلى كالكهرباء القادمة. وحدث ان كان الوقت زمناً عارضاً من أيام الشتاء، ولمح لأول وهلة خاله عايد الخضر، ملثماً عابراً مساحات شاسعة فوق حصانه، وكانت خلفه الرحبة والجبل، وان عايد يسلك هذا الطريق، طريق سفح الجبل الممتد على طول الزور، يحاذيه في رواحه، وطالما يمتطي صهوة الهيلوان، يميل مع السفوح، ولا يهبط الى ضفة النهر الا في الليالي للتزود بالماء.
على حصان الهيلوان، الحصان الذي أنقذ عليه كدرية. نفس الحصان، ولقد ترقرقت أمامه، وكانت الصورة تغيب ثم تظهر مضطربة في مستنقع كبير، كانت تغذيه ينابيع من فُج الأرض، حتى توقفت ومالت الأرض وأنزل رأسه الى القاع. وتداخلت الصورة ثم تذكر ما قاله ناصح الحويش عن جيوش رمضان شلاش وعن الشيخ حاجم الذي سيقف دونهم في خطوط الرقة، لكن فرحان هو الذي أورد أخبار رمضان شلاش والشيخ حاجم، وهكذا كانت في مخيلته صورة ناصح وهو يرفع يديه الى السماء يدعو الله اجتناب المصائب. وسأل أثناءها اذا كان رمضان يستطيع رد الجيش الفرنسي عن أراضي الزور كلها، فأجابه فرحان: يقدر يا جاسر، يقدر وخاصة اذا اتحد ويّا الشيخ حاجم فانه سيردهم على أعقابهم، ثم رمضان شلاش سيعود الى الزور للمّ الشمل الذي بدده الانكليز. وسأل عن مكانه، أين مراكزه الرئيسية؟ فرد عليه فرحان: مراكزه متنقلة في البادية، وما يعرفها غير جنوده واتباعه والذين يعتمد عليهم.. مثل خالك عايد اللي حمل أكثر من مرة رسائله وتوصياته الى الشيخ حاجم والى الانكليز في العراق أو الى أي مكان صعب. وفطن الى أمر خاله عايد، لماذا انقطع عن المرور ببيت فرحان، لماذا لا يريد ان يرى أخته هدلة؟ منذ زمن لم يأت عايد الخضر.
وفي مدى آخر، بعد سنوات بعيدة، سيذكر السرجان جاسر شباب هند العلي، يتذكر، وهو في غرفته في العلوة ينظر الى النهر، ومن النافذة المطلة، كيف اقتربت منه أيام عاد فيها من الدير، اقتربت منه فتفتحت في خياله صورة تلويحة الوداع، وكأنه امتلأ بها، كيف يمتلئ الانسان بهند العلي؟ بعينيها الناعستين وصوتها الذي يذكر بالمآذن، ينحدر الصوت في الصدر والضلوع، وخرج في نبرات متواردة مثال لصوت غناء فحاول جاسر تذكر ذلك الغناء، وعندما ذهب عناءه مهب الريح حسب انه نبر ورقص لنجود العلي أيام بناء سدة الساير، أيام ترميم الهواشة. واذ يقابله عايد، يعود من حلقات الشياب الذين يتقبلون في مجالسهم وجهة الشمس يسترجعون السوالف والحكايا، وينظرون في مصير العلوة الهابطة فيقولون بأسى: أيام كانت العلوة مرتفعة وبيوتها معدودة، كانت الأحلام ما تنتهي وكان النهر كما البحر لا يحده حد، والشباب يعقلون السبع ما يخافون، والواحد منا يهزم مية وما ينهزم. يقول عايد الخضر: فتشوا هسع في العلوة وكل البلد، ولدت الدنيا مثل أبي دنيا عايد الخضر.. ما عاد تولد النسا سوى الحريم يا عالم ونحن راح زمننا.
وكان عايد الخضر المنكفئ في شيخوخته، الشيخوخة المغلفة بحاجبين أبيضين أشعثين ورأس صلعاء، وفم مرول، يذكر أيام رمضان شلاش العتيقة ويحكي دون ملل كيف طلب منه، دون بقية الرجال، ان يذهب على الهيلوان في صقيع الشتاء الى الانكليز في العراق، يحمل رسالته الأخيرة لهم.
سلّمه وقتها رمضان شلاش النص المغلف وهو يقدر الصعوبة التي سيلقاها في رحلته في حماد الشامية. كان وحيداً تحت احتمال شبح غارات الانكليز وطلقات نيرانهم.
لا شيء يذكر من تلك الأيام الغادية، سوى ان عايد حين وصل الى بلدة القائم في العراق رفع للانكليز منديله الأبيض، فأتوا إليه، قيدوه معصوب العينين متجهين به الى حاميتهم حيث أمضى فيها قرابة ساعة، ثم ردوا عليه الجواب وساقوه الى حيث رفع لهم الراية. كان الليل يهبط، ورذاذ الخوف معلقاً في السماء. في تلك السنوات البعيدة، وهـذا ما يـذكـره العجوز ( عظام الكبة ) كما سيطلق عليه في حي العلوة. كان ليل الشتاء لا ينتهي، طويلاً بالقدر الذي يسمح للمرء بالنوم فيه ثلاث مرات دون ان ينقضي. لكز حصانه في طريق القوافل تحت سماء منذرة متوعدة، مغطاة بالمتاهة والضياع.
في خرفه المتشابك مع أيامه القديمة، كلما التقى السرجان جاسر المتوحد في غرفة حياته الباقية، كان يقول له: آني يا ثرتان تاثر لو ما تتلت هربة النتم انت تروه مه المتاهرة ها ها ها. فيضحك بعمق، يهتز جسده الضئيل مرولا. وفي ذاك الليل لكز حصانه بقوة، سمع من بعيد عجلات متعثرة بالخوف، بوحشة الخلاء تحت السماء، كانت أمامه عربتان تعبران أقاليم النفوذ محملة ببضائع مهربة، تصعد باتجاه الدير، واستنجدته قائلة: هنالك قاطعو طرق، سيسلبون أحمالنا، ابق يا أخي معنا في مفازة الزور، على الأقل نقطع معك تلة الصالحية.
وحين قطعوا درب الصالحية، تزود منهم بحقة سمن وصرة من الرطب الأسود، ثم سبقهم على حصان ينطلق في ظلمة مضاءة بذاكرة مروره السابق.
كان يعد على أصابعه العجراء، مررت بالقرية الفلانية والعلانية، أربع قرى، خمسة قرى بعد قلعة الرحبة. ولم يكن الفجر قد بزغ بعد، وكان الجواب تحت إبطه. وقال في نفسه: ما زال هناك بعض الوقت للخروج من ظلمة الليل، وتلك مجموعة البيوت، لعلها قرية سعلو، وقد هده الظلام والجوع. فنحر الهيلوان اليها. عرج الى جادة الضفة، فكاد الهيلوان يقع في حفرة احتفرتها له ساعات منتصف الليل، قفز الحفرة دون جموح، وخلفها وراءه، محبطة في تجربتها الأولى، وسمع عايد الخضر دمدمة تقول: كيف مر الحصان من فوقها دون ان تميته؟! وبدت أمامه الضفة، تعكس في صفحتها المدلهمة فراغاً لا قرار له. كان كل شيء ساكناً، ما عدا خبباً دلـها لحصان منعه الكبرياء من التوقف: سنابك الخيل ترجم الضفة، تمزج صـوت الصدى.. فمـال عرف الحصان تحت شجرة كبيرة، شجرة نصفها ليل ونصفها الآخر هلوسة.
كانت الأرض مبللة بقطر الندى، الذي ساعدنا على أن نجدها أو ساعدها على اقتفاء أثرنا. ولوحت بصوتها عبر رطوبة هواء منعش، حتى مال عرف الحصان، وكان هذه المرة مسموعا قريبا، ولقد وقف الحصان فاستدار عايد الى الخلف – انتظر حتى خرجت من العتمة. كانت هناك امرأة تبكي بأنين بعث الشفقة في قلبه، فسألها: ما لك يا أنت؟ فردت بنشيج مسموع: تائهة يا أخي، تائهة من مضارب نائية، ولم أعد أميز أين أنا، يا أخي! فاقتربت منه وكانت ندية شاحبة مثل لحاء الحور، وطلبت متضرعة: خذني معك يا أخي، من البوعمر، قريبة من هنا، ضائعة، ألله يجازيك خذني معك. فقال لها: اركبي ورائي، ونحن نرتاح بس نصل الى الضفة. وشبكت يديها البضتين حول وسطه، فشعر بدفئها وحنانها، ثم التزت بظهره. فأحس بوسطها وهي تشده اليها، رائحتها نسيم ودفئها خدر. سألها: أجائعة؟ فأجابت متنهدة: أريد أهلي يا دا، بس امشي انت وما عليك حرج. فعرج مع الحصان تصعد معه الأرض الموازية للضفة. قال: علينا ان نصل قبل ان تطلع. فقاطعته قائلة وهي تضحك: الشميسة. زين، زين، انشاء الله انفك كربك يا فتاة. فقالت: اسرع، زوجي لم ينم، وينتظر عودتي. ثم ضحكت بصوت عال: ها ها ها أكيد هسع يتقلب فوق فراشه من الغيظ، قال لي تأتين قبل حلول الظلام. وتحولت يداها الى نطاق جلاد، كلما تقدم الحصان ازدادت قوة. هبط الليل في أرض قفراء مترامية تردد رجع الصوت. تصور يا أخي زوجي ملعون، لا يكاد يهدأ، مرة رأيته نائماً مع أمه ومنذ ليلتين كان مع جدته العانس ، وكثيراً ما كان يتركني الى فراش أخته، صحيح انني أجمل منها، لكنها كانت تمنحه الكثير، تخيل انها تقضمه عند مطلع الشمس، يا أخي انا لا أستطيع ان أفعل مثلها ها ها ها – فلكز الهيلوان الذي راح يجر قوائمه بصعوبة. وتساءل: ماهذه المجنونة التي أحملها ورائي؟ وفكر في الهيلوان، فلكزه: ما لك يا هيلوان أعجـزت؟ فأجابت: ثقيل يا دا ما يقدر على الحمل، تراه بعد خطوتين تنكسر ضلوعه! فالتفت الى الوراء، ولهاث الهيلوان يتزايـد. قال بصوت مسموع: قف يا هيلوان. فالتفت الى الوراء، ورقبته الطويلة تترنح، وعرفه مغسول بعرق متصاعد.
وكان عايد يتذكر، قلت لها بصوت مسموع بعد ان دارت الفكرة في رأسي: تعالي يا بنية نستريح، نأكل شوية من السمن وشوية من الرطب. وعيناي متحجرتان في قحف رأسي. فالتفتُ الى الوراء في عتمة الليل أنظر إليها، فإذ بها امرأة عارية، تضيء ظلمات الليل، شعرها طويل ويداها غائصتان في أمعائي، وكان فخذاها يلوذان بوسطي ثم يعودان الى الخلف، ينزلان عن الحصان الى أسفل القوائم، حتى يعوثان في التراب، لا يتحركان من هناك، ثابتتان متطاولتان، بينما كان الحصان يتقدم لاهثاً، يجر ساقيه بعجز. وقلت حين ملكت الشجاعة: قف يا هيلوان، ننزل يا أختي هين بسد الضفة ناكل ونمرح شوية.
وبينا كانت النار. دارت فكرة في رأسي، فجمعت كومة من الحطب، وأشعلت الحريق. ولاحظت صدرها المتدلي الى فخذيها، وقوائمها المتشابكة والملتفة كثعبان. ناولتها حبة تمر منتظراً تسرب الحرارة الى حقة السمن الجامد. قلت لـها: كلي. فرفعت لي رأسها قائلة: أنت أولاً يا عايد! فرفعت حبة التمر الى فمي ورفعت بدورها حبة التمر الى فمها. مضغت لحائها لافظاً لبها، فمضغت لحائها لافظة لبها. لاحظت، نعم لاحظت حين تحركت يدي دون شعور مني، الى كوفية الرأس، انها حركت يدها الى شعرها الأشعث تقلد حركتي، وحين أملت بجذعي الى الأمام أمالت بجذعها كذلك. فعلمت انها انما تفعل كما أفعل. فتناولت بيدي غصناً جافاً لم تصله النار، وغمسته في طرف السمن الدافئ، وهكذا فعلتْ كما فعلت، ثم رحت أدهن جسدي المستتر بالسمن الدافئ ، وراحت هي كذلك تدهن جسدها العاري، ثم صالبت جسدي بالسمن، وكذلك منكبي ثم شعري (شعرها الطويل المهوش) حتى راح يلمع في ضوء النار. فاستدرت، أخيراً استدرت ثم استدرت واستدرت، ولقد أعطيت ظهري للنار ووضعت كفي على عيني، وكذلك فعلت فوضعت يدها على عينيها مستديرة بظهرها المغطى بالسمن. وبلمحة عين، من أولها الى آخرها، انحنيت بخفة الى غصن محترق، وقذفته عليها وأنا أجري، متفادياً وقتها الضئيل كي تصنع بي مثلما صنعت بها. واستدارت اليّ جزعة، والغصن المحترق يحترق في جسدها ويلتهم السمن والشعر المهـوش. وكنت أجري بينما هي صامتة هلعة فيما وقعت فيه. وكان جزء من العالم يركض مبتعداً وجزء آخر يراقب بعينين منحرفتين. ثم اختبلت كي ترمي بنفسها في النهر، أسرعت تجري الى هناك مخلفة وراءها بحراً من نار هشيم، جرت وهي تصيح ولقد ارتج الفضاء من صواتها، صاحت مرددة: قتلتني يا أبو دنيا، قتلت الحربة يا أبو دنيا. فرفعت صوتي، اتجهت الى قبالة الدير ثم العلوة ثم الى بيت فرحان، الى مسامع هدلة، ناديت بصوت حفيف أغصان شجرة التوت: يا هدلة أنت يا نائمة في أحضان الغربة والحزن، عودي كما تعود الفصول الى أراضيها، فالشتاء قد أتى وقد جاء الربيع، والخريف والصيف- يا هدلة : ترا إنني قتلت حربة النجم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alhawwaij.ahlamontada.com
 
صدى الزور البعيد .. الفصل ( 20 ) .. نهاية الجزء الأول .
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» رواية صدى الزور البعيد .. الفصل الأول
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 19 )
» صدى الزور البعيد ... الفصل 17
» صدى الزور البعيد .. الفصل 13
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 18 )

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الحوايج :: الفئة الأولى :: منتدى الادب والثقافة-
انتقل الى: