الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الحوايج

هذا الموقع مخصص لاخبار قرية الحوايج التابعة لناحية ذيبان -الميادين -دير الزور
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 صدى الزور البعيد ... الفصل 11

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 631
تاريخ التسجيل : 01/12/2009

صدى الزور البعيد ... الفصل 11 Empty
مُساهمةموضوع: صدى الزور البعيد ... الفصل 11   صدى الزور البعيد ... الفصل 11 Emptyالثلاثاء فبراير 21, 2012 5:55 pm

صدى الزور البعيد ... الفصل 11

من زجاج النوافذ نظروا- إنه المطر. لو كان اليوم يوم نزهة لما ذهبوا! لكانوا استمتعوا بيومهم داخل الغرف، لا يخرجهم الا العوز. ونسي عبد الله ما عاناه ليلة البارحة.. ذهبت أوهامه في رحم الليل، حيث كان نائماً، واذا تذكر مقدار الخوف الذي أرقه، هز رأسه: الليل حياة أخرى، يغرّب الانسان عما يحسه أثناء النهار. عبد الله لم َهجست بذلك الخوف؟ ما زال جاسر الى جانبي، ولم يلق بنفسه في النهر، ظهر البارحة وجدناه غارقاً في الضحك من السفان الذي اقتعد الأرض بجانبه، يخرج ابر العاقول من أقدامه المتورمة. سمعنا الضحك قبل رؤيتنا له، كانت الأشجار تحجب عنا الرؤية، باسقة ومرتفعة، تنال السماء، لا ترى عيوننا السماء، مظللة معرشة. وجئنا من الخلف، طافت بنا السفينة من مرسى البلدة، ثم انحرفنا الى اليسار حين واجهتنا الحويجة، من الخلف، رست فينا في ظهـر الحويجة، في الطرف الآخر حيث كانت الضفة اليسرى قريبة. لذا صعدنا نتحذر شوك العاقول المنتشر يطوق الحويجة. وصادفنا الضحك ثم ظهر جاسر، يرنو الى الضفة اليمنى وينتظر مجيئنا من هناك. كأننا أردنا مواجهتهم من الخلف لنعرف ما ينتظرنا منهم. أبو ناصح وأنا وعبد الرحيم وفرحان.. والى يسارنا الخيمة والخروفان، اذاً بنوا الخيمة بأنفسهم، وأتقنوا نصب الأعمدة. رد فرحان: صحيح انني منعتهم من النزهة في الأسبوع الماضي، لكن ليست المرة الأولى التي ينصبون فيها خيمة. مرت ليالي عديدة بعد نصبهم لأول خيمة، وتعلم سرحان إدارة الحانوت بمفرده.. وجاسر سيحذو حذوهم اذا شاء الله.
وبعضهم حاول الخروج من باب الغرفة. يفتحه كي يكتشف كمية المياه المتساقطة. إنه المطر. ومن زجاج النوافذ نظروا، قدر بعضهم بانهم لن يستطيعوا الخروج الى فناء الحوش، لقد امتلأت البركة بالماء .. انداح المطر يسيل باتجاه غرفة هدلة.. الأرض مائلة باتجاه هدلة.. يسيل الماء اليها .. ويترى يسح على بطنه .. وفي عتبة الباب قنال لتصريف المياه. ورأت ورأينا كيف كان الخوف ينتشر، رغم النشوة الظاهرة في مصاهرة الهطول. وفي أي وقت نحن؟ البارحة كنا في النزهة ..هذا المطر.. اشارة تعجب.
هذه الدفقات ذكرتني يا هدلة بيوم كسر السدة! فرمقتنا بعينيها، كنا خلفها نشـاهد دوائر المياه، نظرت شزراً، وشممت رائحة النوم تنبعث منها. فاعترفت .. لولاي لما تذكرتْ أياً كان، فقال الوالد: أسكت.
وأرض الحوش ملساء، مرصوفة بعناية، يغلب عليها اللون، أو هكذا يبوح الإيحاء عند النظر. ملونة، تميل بالمرء الى الاعتقاد ان الحالة حالة وصال عقب هجران أخفاه النسيان. وأي لون هو؟ هذا اللون الطاغي حيث لا لون ولا رائحة، سوى الهذيان الذي طلى الزجاج – الأنفاس الحارة تطلي زجاج النوافذ. وكانت هدلة رطبة، وصدرها المستيقظ يوميء بالالتقاط – يمسك حبال الأرجوحة حين تنتابه رعشة السقوط فيصم يديه، وينهد في صدرنا:
صميمة الصميمة على النبي صلينا
صلينا ما بطينا صلينا عالهيـلوان
ولولا الرواق الذي حجب عنا السماء وأبعد جبهة الهواء لأسمعنا زجاج النافذة نقرات الهطول. الرياح تهب من الشمال، فأغلقوا الشمال، في أي زمن نحن.. حيث لا زمن ولا لون. لو كان اليوم يوم نزهة لما خرجنا البتة. وكانت الأرض مائلة الى طرف هدلة فأخذ المصرف يدخل المياه الى أرض الغرفة.
قال عبد الله: وكاد ما راح يتوقف المطر حتى تغيب الشمس! فدمدمت هدلة: هو بي شمس تا تغيب! غابت الشمس منذ الصباح، منذ مساء البارحة. وسأل جاسر: أي بارحة؟ فانسحبت هدلة من بينهما، أمام زجاج النافذة، ذهبت الى ما بين النافذتين حيث المرآة لتبحث عن نفسها في الظلام. وتساءلت في المرآة: أين أنا منذ البارحة في المرآة؟ رأيتهم فقط يتكومون البارحة فوق بعضهم في الديوان، لكنني لم أرني معهم، كنت مع جاسر ومريم عند مصطبة الدرج، البارحة.
ان القمر الذي أرسل أشعته، والهواء المنتشي برطوبة الضفاف والنظرات المتبادلة بيننا، حين روى لنا جاسر ما حدث بالحويجة، جعلت الأيدي تتقارب. أسند جاسر مرفقه على الحائط فأستندت مريم كذلك، بينما وقفتُ بينهما أرقـب ضحكتها ولمعان أسنانها تحت ضوء السماء. هكذا اذا، شهقت ضاحكة. وكان يصلنا حديث رجال الديوان من النوافذ الثلاث المطلة على الحوش، فنخمن انهم يتبادلون النوادر، ولقد ارتفعت أصواتهم حتى بدت لنا قريبة مسموعة من مصطبة الدرج.
البارحة؟ لا أكاد أصدق ظني.. وسمعنا فرحان يقول: اذا ظل الأرمن يتقاطرون علينا هكذا، ما راح يسعهم وسّع. فرد أحدهم بصوت خفيض ينم عن الأسى، رد بصوت مكبوت يشي ان صاحبه قد أطرق على الأرض عندما بدأ الكلام، كان الكلام غير مفهوم، فلم نستطع تمييز كلامه، راح صوته يخفت ويخفت، ان الكلمة الأولى كانت يا أبو سرحان، ثم انخفض الصوت الى الحد الذي جعل أسماعنا ترهف وترهف لسماع ما يخرج من النوافذ الثلاث، وكادت مسامعنا تحس بخفقان القلوب في ضوء القمر.
اذن لقد اقترب منها. كانت بسطة الدرج قريبة من البئر، وكانا يريدان الصعود الى سطح الديوان، وعندما لحظا هدلة توقفا. أوقفتهم هدلة..أوقفتهم بإيحاء من المطر. وخمنت مريم: اذا استمرا بالصعود فإن السماء ستمطر. فتوقفت عند بسطة الدرج. وقالت هدلة: أنا.
ربما كانا سيقتربان أكثر لولا وجود هدلة. ظل جاسر مستنداً علـى مرفقه، وان أمال اليها قليلاً، فإنه لم يلامس سوى حفيف ثوبها، وهكذا حزرت هدلة كيف كانت الرغبة تنخلق في جسده الشاب. انه لم يتغير الا في هذه الليلة، فلو كان واقفاً معها الآن لرأت ما لم تره البارحة، فجمجمت: (كم هي طويلة هذه الليلة ؟)، ولقد بحثت عنه طويلاً حتى رأته في المرآة: يتنفس فيها ليسكب وجهه في صدرها، ورددت أعماقها: انه ممتلئ، فلولاه لما استنشقت رئتاي هذه النشوة، وتداركت: مبـارك لك. فقال الأب مغتاظاً: ما الذي لوث ثوبكَ؟ كذا وكذا .. عليك الانتباه من الآن فصاعداً .. المياه تدخل من المصرف، تبقى تسيح عند عتبة البـاب، كذا وكذا .. ما الذي لوث حجرك؟ تنتبه من مياه الحوش والغرف .. حتى وأنت نائم .. تلطخ ثوبك وتنشر هذه الرائحة. فردت أمه: ان الرطوبة أحيتها طول الوقت .. الى الصبح كي نستطيع استنشاق رائحتها، وحالاً ستغيب الرائحة حالما نفتح النوافذ وننشر الثوب على حبال الغسيل. فقال الأب: عليكِ غسيل ثيابه الداخلية .. ملوثة هي الأخرى.
عليك اللعنة. فكر عبدالله: حينما شممت الرائحة، ظننت يا هدلة انني قضيت وطري منك، ورحت أتساءل متى كان ذلك؟ في الحلم أم في اليقظة؟ تفقدت أشيائي على غفلة منكما. استدرت بينما كنت تنظرين في المرآة .. كان كل شيء في مكانه، فخمنت ان الأمر من المطر، الى ان قلتِ مبارك وعيناكِ لا تفارقان حجره.
وكان باب الغرفة مغلقاً، لم يشأ أحد منا فتحه. باب من شجر الجوز مغلق على مصراعيه، متين مغلق. احتجزنا الى حين توقفت السماء، واذا كان باب الغـرفة يقاوم المطر فإن النافذتين المطلتين على الحوش ليستا كذلك، تسمح للرذاذ الشارد عبر الرواق بالعبور. لقد نسي فرحان تدعيم نوافذ بيته يا هدلة، ودائماً ينسى الأشياء الصغيرة، لا يقيم لها اعتباراً – حتى كاد المطر ان يترك الباب ويدخل من النافذة يا هدلة. أيضاً انت تلاحقين خيال ولدك في المرآة وتنسين طيفه اللاهث خلفك، وقد عب الهواء يحيله زفيراً في المرآة. لكن يا ربي ما هذه الرائحة، لعلي فعلتها في غفلة النوم! آه كم هي كريهة، وتقبض النفس. وما بال هدلة لا تضم الفراش؟ ان الرائحة آتية من شقوق النوافذ، من الحوش! ما بال هدلة، تنتعش كلما اقترب منها ابنها؟ اذاً اغلقوا النوافذ .. هدلة لماذا لا تفتحين النافذتين؟ فرحان لم يفتح لنا النوافذ ولا شاها ولا حتى سرحان! لم يكن أحد قريباً من أحد الليلة الفائتة، كانوا بعيدين، أنا وأنا وأنا .. الا ابننا جاسر، هذا الغادر الذي يقترب منك أكثر كلما صرخت أحاسيسك في المرآة: انه ممتلئ .. وقاهرة أنت أيتها المرأة، كم تخيلت أنني ملكتك حين زفتني العلوة اليك!
طاف أرض الحوش بالماء، كان سطح المياه يوازي مستوى البركة، وعندما توقفت السماء عن المطر غدا الفناء بركة مياه واسعة. وقال فرحان من نافذة الديوان، فتحها وأشرأب برأسه: الأبواب تبقى مغلقة حتى تبتلع الأرض المياه، ومن يريد الذهاب الى الحمام والمطبخ ، عليه الشّمير والتطواف، واحذروا فتح أبواب المرافق لأنها ستمتلئ في الحال، ادخلوا عليها من نوافذها. الا ان سرحان أطل من غرفته المقابلة لغرفة الديوان وقال: يابا ترى باب الحمام مفتوح ، المياه دفعت الباب .. تراه ممتلئ بالمي. فرد فرحان غاضباً: كان أغلقته زين لما شفت المي يفاتح الباب، يا ابني يا ابني هسع امتلأ بالمي، كان أغلقته وأنت قريب منه .. كان من الشباك يا سرحان، تنط وتغلقه زين. فرد سرحان: لما شفته كان المي مغاولة .. وما لحقت أفتح الشباك حتى انتهى كل شيء. فزفر الأب ثم جمجم: شلون هسع طيب؟ وردد: خلص خرب الحمام والمرحاض ، تعبأت الحفرة وما عاد منها نفع.
ترا الدير طافت زاد يابا! سمع الصوت يأتيه بعد أيام من توقف السماء. توقفت السماء عن المطر ففتحوا شبابيك الدرب. لوح فرحان بيده قائلاً: الشبابيك من الجهتين تنفتح، ومن جهة الحوش وجهة الشوارع– للديوانين ست نوافذ على الشارع. ومن المؤكد ان شمس الدير لن تجفف مياه الدروب والساحات على مدى حول كامل. يحتاج الأمر الى سنين، لأن الأمواه تغلغلت في أركان الدير، وأخرجت العفونة الرابضة منـذ قرون. ما قولك يا فرحان بفتح الأبواب أيضاً، تغسل المياه الغرف وأجزاء الأساس؟ لا يا أبي محمد يتبلل الأثاث، وتدخل الرطوبة الى الفرش واللحف ولا يعود الدفء الينا. لنحمي أنفسنا وبيوتنا يا عبد الله، ثبتوا المصاريع جيداً، اغلقوها بالرتاج، اغلقوا أيضاً باب الحوش بالرتاج ولا تخلوا سبيلاً للرشح، ان مستوى مياه الشوارع أعلى من مستوى مياه الأقنية– النهر أزاد المنسوب في الشوارع والدروب، ليكن خروجكم ودخولكم من النوافذ. وسأل عبد الله: هل فاض النهر يا فرحان؟ فأجابه وهو يستدير الى الخلف ليرى منسوب المياه في الشوارع: ان سطح الماء في الدرب يوازي مرفق النوافذ، يا عبد الله لقد فاض النهر. فقال عبد الله: اذاً لقد فاض النهر يا هدلة. وسمع فرحان يؤكد: نعم وهو يسير في الشوارع العامة، لقد ارتقى الحويجة كذلك، ربما لم يبق حويجـة يا عبد الله. واستفسرت هدلة: هل رقى الى علوة الدير؟ فرد فرحان مستنداً الى نافذته: غمر سفوحها بالتأكيد. وقالت شاها: بيوت العلوة التي في المرتفع أم التي في السفح، اذا لم تغلق أبوابها فانها ستغرق في النهر.
علينا يا عبد الله سد مصرف العتبة بقطعة قماش، وحصر الخرق في شقوق النوافذ ما دامت السماء تهطل. يا هـدلة احذري ان تزعزعي النافذة، لا تضغطي بقوة على إطار الخشب، ليست النافذة مصرفاً لتدفعي الخرقة بهذه القوة، كلما دفعت أكثر ازداد الشق، يا هدلة احذري، اذا استمر عنادك ستحولين النافذة الى خرقة كبيرة. يا أمي توقفي توقفي، لقد فتح فرحان نافذة الديوان، توقفي كأن الرياح سكنت، اصبح الهطول عمودياً. وسمعوا فرحان يصيح: افتحوا الشبابيك، الرواق يحمينا .. افتحوا الشبابيك دون الأبواب. ورد عليه عبد الله: يا فرحان كلما نقول خلص ما ظل مطر ولا دنيا، ما ندري الا وتنقلب من جديـد، أنوب، وتزيد أكثر وأكثر .. وعاد هذا ينراد لها سفينة النبي نوح ..
نحن لسنا ميتين حتى تمطر كل الوقت، لسنا ميتين! فكر فرحان وهو ينظر الى السماء، التي تابعت بعد برهة توقف. هـذا بـلاء يا شاها، تعالي أريدك .. تعالي الي يا شاها .. كيف يا فرحان ان يرانا أحد وأنا أطوف اليك؟ الكل يعرف أنك ستأتين سباحة، وهم سيغضون أبصارهم فلا يرونك وأنت تطوفين .. ألسنا ميتين يا شاها!؟ وفكر فرحان ان شاها ستجيبه ببلى، نحن ميتون يا فرحان. وفكر أيضاً ان هدلة بجانب عبد الله، وستنتظر حتى ينام جاسر: تطوف النساء الى أزواجهن عبر الأقنية الى نوافذ الغرف.
وهكذا حتى الموت لن يمنعنا من التطواف. نبدأ بفتح النوافذ، وننتظر لنرى ماذا بعد. انظروا الى السماء، ارفعوا رؤوسكم الى فوق: ها لقد انتهت وقرت وتبدت، السماء مرتفعة فوق رؤوسنا.
يا سرحان، صاح فرحان بأعلى صوته، وتابع : اغلق باب المرحاض. فأجابه سرحان ان المرحاض لا يعمل. وتذكر فرحان مجيء شاها، سباحة اليه، وهذا السرحان لا يفارق النافذة: اذهب يا بني سباحة، عبر النوافذ .. وافهم لنا ما الـذي يجري، لماذا السماء لم تنقطع؟ ومر سرحان اجتاز الديوان ثم قفز الى نافذة الشارع ورمى بجسده هناك.
يا شاها افتحي نوافذ الديوان الثاني، والعبور سيتم منه، أنا من ناحيتي سأغلق النوافذ، ان العبور من الديوان الآخر، تعالي يا شاها قبل أن أغلق النوافذ. فالتفتت شاها الى مريم قائلة: ساعديني يمة أطلع من الشباك .. أبوك يريدني. فردت مريم متلهفة، ترفع أمها من عجيزتها: روحي يما الى أبوي وأنا أسبح لأفتح شبابيك الديوان. فحذرتها شاها وهي على مرفق النافذة: ارفعي يا مريم ثوبك زين وانت تعومين، انتبهي لا يبتل. واذا كانت شاها تطوف جانب أعمدة الرواق لاحت لها هدلة تمد رأسها من نافذتها مبتسمة انت محظوظة. صمتت تنتظر مبادرة هدلة وتتابع العوم ببطء، قالت هدلة متلكئة: أقول .. وِلِدكم طلعوا؟
لندع جاسر يخرج معهم، الكل يلعب في الدرب، وهذا فرحان بعث ابنه سباحة الى ساحة الدير ليتقصى الأمر، ربما عاد اليوم أو غداً .. واذا كانت السماء ستمطر فانهم قريبون من النوافذ يا هدلة، لا يمنعهم بدء الهطول عن القفز الى الديوان.
لكن الثوب فرّش في الماء، أفلتت أذياله عن قصد، وانها غفلت قليلاً في دوائر الماء فرفعت يدها المضمومة عن ثوبها لتحد براحتها اضطراب المياه. كان التيار يدور حول ساقيها وانعكاس أشعة شمس في داخلها يبدد ظلمة الرواق، وخمنت مريم انها وحيدة في الحوش وتركت إخوتها في الدرب، وتمعنت في الانعكاس، رأت زغب السيقان وارتجاج الباطن في صفحة المياه، هكذا اذاً عن قرب، تنهدت يا ربي، أرادت ان توقف الرجرجة، فنسيت وبسطت راحتها. تخال أنها في حمام مغلق، رغبة الاكتشاف تدور في أعماقها. لكنها أجفلت بالبرودة المفاجأة، سرت داخل كيانها مرعدة مقلقة، وزاد خفقان قلبها، وشعرت للحظة أنها تغوص في أعماق محيط، والماء يغلفها ويحتويها، وتخيلت ما يجري في الديوان، اقتربت تسمع ما تصور لها هواجسها / أنتِ بعد كل السنين الماضية، وقفنا خائفين من التنين، تجرّين أذيال الثوب الليموني، من فوق السد ذي الألسنة الثمانية.. وتقولين تعال/ حتى انتبهت، تذكرت ان السريان كان آتياً من النافذة المفتوحة، نافذة هدلة، استرجعت من ذاكرتها أمسية الليلة الماضية البعيدة، عند بسطة الدرج، في ضياء القمر.
وهزته المفاجأة، نزلت من حيث لا يدري، فنهض وسط الغرفة قائلاً: قوم يا أبني قوم العب مع الأولاد .. هاي مريم تصيحك، ما ظل أحد بالبيوت، كل الأولاد طلعت الى الدرب. فاستيقظ جاسر ونادى: مريم، أنت بالحوش؟ يربط أذيال كلابيته في وسطه ويرفع كميه عن ساعديه. وهدلة ترمقه بلحظها متجاهلة المياه والدير والسدة والهواشة ورجال السلطان. إلا ان أباه فكر ان ابنه إن طاف في الدرب، فلن يصل الى شارع التكية، وهو لن يخشى تداعي مئذنتها: يا هدلة ما بك خائفة الى هذا الحد، أتينا الدير من أجل ابننا جاسر، من أجل أن يحيا أكبر قدر ممكن، الحياة والخوف شيئان مختلفان يا هدلة!
كانت المياه أول مرة، التقت سيقانه مع سيقانها، فشعر بالبرودة والحرارة معاً، استند اليها عند مرفق النافذة، وأخذ يتباطأ بالنزول مستشعراً بدقات قلبها المبتل، بالرطوبة في جسدها الاسفنجي، وبهذه التلاع الرابضة عند مخرج النافذة، تسنده في صفحة وجهه وتومئ له بالبقاء، بذات النفس وبذات الجسد، بالخطايا المحفورة في وحدتنا وليالينا الساهية. وتنهد عبد الله وهو يتملى طواف ابنه مع مريم، وهو يعبر النوافذ، يرتطم بمياه الدرب.
في ذلك اليوم الذي أمطرت فيه على غير العادة، طافت المتاجر بكامل حوائجها في الشوارع، ووجدت أبواب الحوانيت مفتوحة على مصاريعها، وقد تسربت البضائع والغلال الى الجهة التي سار فيها النهر. ساحة البلدة القائمة في بسيطة التلة من الشرق كانت هي الأخرى قد نقلتها المياه، فذهبت معالمها تطوف كي تبقى بقعة فارغة صغيرة وسط الساحة، وانحرفت فامتزجت بواجهات متاجر الشارع العام الى الشرق.. ومتجر سرحان ومهيدي ثم بالتكية ذات المئذنة المائلة، حتى طريق القوافل الترابي الموازي للنهر.
كان سرحان يطوف مصعوقاً. التفت وهو ينثني، عند رأس زاوية دربهم، التفت الى مآل المئذنة الصامدة في وابل المطر، وحال لونها من طول المجاهدة فتهدلت شرفتها العليا وانسحنت أفاريزها، وبابها اما مفتوحا واما مغلقا، حيث لم يميز لها باباً ومدخلاً، غمرته المياه وهصرته الأرض. وكان الشارع العام متداعياً، يدوّم فيه الماء ويلعب في حواشيه وخباياه، وما انغمر منه يماثل ما ربى، فكان يتردد، مرة تغوص الروابي فتظهر أطراف الأرصفة والمصاطب، وأخرى يعود فيها ما غار وانطمس، تعود الروابي والسقوف الى مجلى النظر، فتبدو كأنها أرصفة ومصـاطب تصعد الى الأعلى، فتنقلب الوجوه وتتردى المعالم. وترقرقت عيناه اذ مر بجانب متجره فلم يجد فيه شيئاً، انه خال فارغ .. ذهبت منه الرفوف والمناصب والخزائن وما حوت من القماش والملابس.
ورأى بعد ذلك وهو يبحث عن الدير، انه لم يبق شيئا، كل الدير، سيقول لفرحان، طافت عن بكرة أبيها، ويلزم إنشاء دير ثانية، دير جديدة، تمتد من القشلة الغربية وحتى المدخل الشرقي للمدينة، وينبغي مد جسرا جديدا، عندما نتبين الأرض من النهر، لقد تهشم جسر الفرع الثاني من النهر، الجسر الخشبي القائم على السفن ودعائمها، وجعلت السفن الناجية من الغرق تدور في نواحي الدير، تبحث عن المرسى ولا تجده. وقال في نفسه: أو عجاج أو فيضان، ولا وسط !
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alhawwaij.ahlamontada.com
 
صدى الزور البعيد ... الفصل 11
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 19 )
» صدى الزور البعيد ... الفصل 17
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 18 )
» صدى الزور البعيد .. الفصل 13
» صدى الزور البعيد .. الفصل 12

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الحوايج :: الفئة الأولى :: منتدى الادب والثقافة-
انتقل الى: