الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الحوايج

هذا الموقع مخصص لاخبار قرية الحوايج التابعة لناحية ذيبان -الميادين -دير الزور
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 صدى الزور البعيد... الفصل التاسع ...نزهة الحويجة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 631
تاريخ التسجيل : 01/12/2009

صدى الزور البعيد... الفصل التاسع ...نزهة الحويجة Empty
مُساهمةموضوع: صدى الزور البعيد... الفصل التاسع ...نزهة الحويجة   صدى الزور البعيد... الفصل التاسع ...نزهة الحويجة Emptyالثلاثاء فبراير 21, 2012 5:15 pm

صدى الزور البعيد... الفصل التاسع ...نزهة الحويجة


تفقدت هدلة بعينيها المحسورتين ابنها جاسر، بينما جلس الى جانب عبد الغني الفرحان، في غرفة القعدة. كانت ملفعة بشال خمري غطى رأسها وصدرها بينما أظهر وجهها المهموم. تفقدت ابنها فوق مصطبة الغرفة القائمة في الصدر، وقد دفن ساعديه في وسطه وراح يراقب الوجوه والأحاديث بذهول. الأحاديث وما رافقها عبرت عن حالة مـن الحب والارتياح، كواجب من واجبات الضيافة. نقلت عينيها عن وجه شاها المطر زوج فرحان، حين خيّم على المجلس صمت مفاجئ، بعد الصيت والهرج. وقد نقلت عينيها عن شاها بابتسامة شاحبة الى ابنها المنزوي في ركنه. رأت هواجسها مرسومة في محياه، وذكرياتها تطوف في خياله. وأفاقها من انكفائها الى ابنها صوت شاها الرخيم: شكون به جاسر .. لسة زعلان على العلوة؟ فالتفتت اليها تحاول الخروج من عذابها. وانتقلت الأنظار الى جاسر الذي ارتهن بالعيون المحدقة نحوه.
انتابته أحاسيس من سراب، جعلته يعـود الى هند العلي، يترك المجلس بشيء من الغفلة. استيقظت مشاعره على المضي في ذاك الاتجاه، وكأن احدى قدميه سقطت عن المصطبة دون ارادة منه فاهتزت أوصاله. أراد الانطلاق والتحرر من مصيدة الجدران الأربعة، السقف، رائحة البخور المتصاعدة. تخيل أن المكان غصة في حلقه فأناخ رأسه واستكان. لكن مريم أخرجته قائلة: جاسر! تومئ الى قمر ينير ظلمة طريق .. أشجار على كلا الجانبين .. والضوء الساطع يعكس البريق.

فكرت أمه أن حالتها أثرت في ابنها، وجعلته يمزج الحنين الى المكان القديم بالقلق عليها. فاعتقدت أن تناسيها السريع لما كان، سيوفر لابنها ما فقده خلال الأيام والأشهر الماضية. ذلك أن احساسها، في الأيام الأولى للاستقرار في دار فرحان، بمقدرة الجو الجديد على حمل جاسر على النسيان، لم يتحقق، فحملت على أن تناسيها هو المقام الأول. عليها أن تنسى أولاً كي ينسى، تريح نفسها من الثقل الذي جثم على كاهلها. فلولا النسيان لما دفقت الحياة ثانية، لظلت باقيـة في حنين الساعات الأولى.

بدأت يوماً جديداً، فتحت النوافذ. حاذرت في إبعاد اللحاف ببطء عن جسدها ان تزعج زوجها النائم، وتنصلت من المكان القريب تقف جانب النافذة المشرعة، فربطت عصبة رأسها وعقدت شالها على شعرها. ثم تنفست، فتحت عينيها على ضوء الصباح وهي ما زالت جانب زوجها تحسه وترغبه، فاستدارت الى نومه العميق، ثم هبت من فراشها الى حيث وقفت. وكان الحوش يطل من النافذة المفتوحة: أعمدة الرواق التي تظلل الغرف الثلاث مع غرفتي الديوان، والغرفتين المقابلتين للديوانين في طرف الحوش بجانب المطبخ والحمامين، ثم بركة المياه وأغصان شجرة التوت التي جردها الخريف، البئر والى جانبه الدرجات الأولى من سلم صاعد الى سطح الديوان. والى يمينها مدخل دار مهيدي وزهية، الدار ذات الغرفتين. وكانت ترى من مكانها جزءا من سور حديقة مهيدي القائمة في نهاية الحوش، قبالة الغرفتين. ولتوها سمعت صوت عبد الله، فعلمت ان حرصها على تجنب ايقاظه قد أخفق، فأزاحت الستار عن النافذة، وأخذت ترى المشهد الممتلئ بيقينها الجديد.
قال لها عبد الله مدخلاً يده الثانية في كم سترته البنية: نلحق فرحان ومهيدي للشغل، يكفي قعود يا هدلة. ثبت عقاله على رأسه ومسد سترته فوق كلابيته متابعاً: إفطري ويّاهم، لا تنتظريني. ثم ألقى نظرة الى ابنه المستغرق في نومه وهو يستدرك: اقعديه اقعديه، إن الولد فاقت من الصباح. وسمعت صوت عبد الغني يسأل إن كان جاسر يريد الذهاب معهم الى حويجة النهر، لتحضير الوليمة التي سيقيمها فرحان لاصدقائه، كوداع لنزه الصيف.
غادر عبد الله البيت الى الدرب المفضي نحو الشارع العام، فاجتاز بيت عبد الرحيم بغرفتيه المشرفتين على الدرب، واجتاز المنازل الثلاثة ليصل زاوية الشارع العام، وكان عليه ان يلتفت نحو اليسار، مولياً التكية ظهره. ومستديراً برأسه الى مئذنة التكية، بدا الشارع الممتد شرقاً، الى العلوة منطوياً على نفسه، متداخلاً في روآه، رغم المبادلة بين الأعراب وأصحاب الدكاكين الماثلة أمام عينيه المنحرفتين: فأنزلت جفان اللبن عن رأسها المنزوي تحت الثقل، واستكانت قليلاً موحية أن ثوبها لم يلتث بالجفان وبالدرب الطويل، فنفضت بيديها ردفيها ثم انحنت على ساقيها. يسمع بأذنيه ويرى، وهو لم يلتفت الى جهة سيره بعد. ثوبها الطويل ينسرب امام عينيه، يهف برنين الأساور التي ملأت العنق والساعد والساق. ما زال يسير .. لقد أرخى شفته السفلى من طول النظر حتى ارتطم بنفحة ساخنة، وضعته أمام عربة محملة ببراميل ماء الشرب، وسمع من بين الحصانين وبين أوهام النجاة تمتمة الحوذي: هوش هوش! لذلك استدار برأسه الى طريقه، اندفع متراجعاً الى الخلف، ثم مقرفصاً، تجلى العالم له خلال قوادم الحيوان وأرضية العربة مسرحاً طفولياً بعيداً.
وصل الى متجر مهيدي الخضر، تاجر السمن والصوف، معفراً بالحادث متطيراً، فأجلسه مهيدي مكانه، على كرسيه الواسع المنسوج بقصب الشجر. راح يسترجع ما حصل، مغمض العينين متجهماً، مداعباً إبهامه، ضاغطاً على ناجذه: وغيره لكان ذهب تحت العجلات، أسفل الحوافر، وكان ارتمى عنه العقال، انحسر رأسه وتفرع، لكن الحمد لله تصرف بهدوء وسلامة، وعَبَر المحنة متماسك الأعصاب. وسمع بالقرب منه هسهسة الخلاخل، تعبر بطيفها الى المتجر المجاور.
كان أحد دكاكين فرحان، الدكان الرابع باتجاه الغرب، على طول الشارع العام.
وسأل عبد الله مهيدي: سرحان على طول يظل بهالدكان؟ رد مهيدي: سرحان هون، وفرحان بالمتجر الكبير. فاستوى في جلسته قائلاً: أروح أسلّم عليه وأرجع بعد شوية. وحين لمحه سرحان قادما بادره: أهلين أبو محمد. ثم استطرد قائلاً للفتاة: ستة أذرع خام خاصة يا شابة. محدقة به وتكاد الدهشة تغمرها ثم أمالت جسدها تجيز له بالمرور، ولعله التزّ بها، فوجدته يلهث، فسبقته مجاملة: زين قحزت بسرعة، والا كان رحت جوّاهم، عفية يا ربي .. وأخذني قلبي عليك. تنظر الى فوق، الى السقف المغطى بحشائش رطبة. ينظر الى القلادة المسترسلة في سنابل شعرها فيما اذا نزعت عنها الخمار، والى العقد المنداح على طوف صدرها إن انتزهت في شتائل الهيام. ربط الأذرع البيض بخيط الكتان ثم ناولها محيياً: يهتري بالعافية. ومضت تتمايل في مشيتها، ويتلوى في نظراته المتتابعة: إنه سيعاف هدلة اذا ظلت متوانية عنه.

واستيقظ جاسر، أيقظته هدلة. أو انها ترددت، سمحت لعبد الغني برفع الغطاء عنه، والشروع بتدليك صدره، سأل عبد الغني: يتأخر بالنوم كل مرة يا خالة. فردت: لوجه الصبح ما ينام. فقال: ناقصه شغل، لو يشتغل ويعمل مثلنا كان ينام من المساء. فجمجم جاسر: أتركني يا أخي... أتركني أكمل الحلم. وكانت مريم قد فتحت الطريق لمملئ الميـاه، يملأ مزامل الشرب، في المدخل وفي الرواق بجانب غرفة القعدة.

حين استيقظ رأى هدلة، وإن كان عبد الغني يحدق في وجهه، ينتظره كي ينهض، لكنه رأى هدلة، تريد له الذهاب، وعبد الغني يردد: أمامنا نزهة النهار بأكمله. فنهض قائلاً: مستعجل على إيش يا أخي، لسه وقت وما قام النهار بعد. ورمى أذيال الكلابية المنحسرة على ساقيه النحيلتين، ثم سأل: كلنا نروح الى الحويجة؟ فأجابته أمه: أنت وأبوك وأعمامك والولِد. وظلت تقول وهي تكتحل في المرآه: اطلقوا روحكم في الحويجة. فألفاها تنظر اليه خلال مرآة نصف قامة، مثبتة في الجدار، ما بين نافذتي الغرفة. وكان عبد الغني ينقل نظراته بين جاسر وبين هدلة والمرآة.

وقفوا على الضفة ينتظرون عودة الطرادة من الحويجة، جاسر وعبد الغني وسرحان ومعهم خروفان، كي ينتقلوا بدورهم اليها. وقفوا يتملون النهر تارة، وانعكاس الأشجار القريبة في المياه تارة أخرى. الأثر الباقي من الخريف يفتح فجوة أخيرة في لبدة الغمائم الراحلة. وكان أحدهم يرفع رأسه الى السماء ليرى ما اذا سيصدق ظن شاها في هذه الرحلة الخائبة. وأخذت السماء المتلبدة تنجلي عن سحابات بيض هلل لها كل الذين ظنوا أن ظهيرة اليوم ستكون مناسبة لنزه الحويجة الشرقية، هذه الحويجة الواقعة في طرف البلد.
سوف تعود الطرادة بعد ان نقلت قرب الماء ودلة القهوة مع بعض الأواني والخيمة الكبيرة التي اقترحها فرحان لمواجهة احتمال المطر. قفز حمزة المجدّل من الحويجة الى الطرادة، وراح يسيّرها بالمجداف في خط مائل، عكس اتجاه النهر، ليرسو عند سرحان والأولاد في الضفة. وأشار جاسر لهم: ان نتقدم باتجاه النهر ويطوف حمزة بخط مستقيم دون مقاومة المياه، أسرع لنا وله، نختصر المسافة والوقت. وأنشأ جاسر يلوّح للسفان، من هنا – بيده يخط جهة المنحى، ويرسم في الهواء الإشارة التي تدله على تقدمهم باتجاه النهر، ويمد يده اليمنى بموازاة النهر، هكذا، حيّد مسارك وصاح يلفت انتباهه: حمزة. فرفع الأخير يده اليسرى بعد ان ثبت المجداف باليمنى: ماذا تريد؟ وكادت السفينة عند ذلك، أن تسقط في المياه، لكنهم تداركوها، وناضلوا لتجنب البله الذي سيصيب فرحان لو علم بالأمر. ورفع نفسه بعد حين من السفينة ملوثاً وباحثاً عن يشمغه بالعينين الممطوطتين التي أضفت على وجهه علائم التساؤل والدهشة، وكان سرحان يستفسره ماذا حل بك، ما حدث؟ فقال حمزة وهو يهرش شعره الأشعث: ما أدري دارت الطرادة بيّ، كأن شيئاً من جوّا شدّها، لو ما ربك سترها وثبتتها زين كان المي غوّلها. اما جاسر فقد استغرب سلوك السفان، أشار بيده هكذا، جهة المياه، اذهب باتجاه النهر، الى الشرق، دون مناحرة الدومات، الى هذا الطريق الآمن – لأن التيار سيمضي قدماً معك، سلساً ناعماً ونحن نتبع الضفة الى المرسى، حتى نصل اليها ويتسنى لنا ان نقفز لنعود من حيث أتينا، أليس كذلك؟ سرحان يفتل شاربيه ويقرأ المنظر بعينيه الزرقاوين – لأنك لا تعرف الدير بعد، تصورت هذه الخرافة يا جاسر!
ونقل أقدامه ببطء في المياه حتى وصل الى السفينة فتناول منه حمزة دلة القهوة وسطلاً احتوى على أقداح الشراب والفناجين، وتبعه عبد الغني يساعده سرحان في حمل قرب الماء. وقال سرحان: إعجل، فبعد صلاة الظهر يجي عمك فرحان وربعه. رد حمزة: لسه وقت، نجهز كل شي وقبل ما يجي أحد. وأطلق عبد الغني ضحكة طويلة قائلاً لجاسـر: حدّر بالمي اسبح .. شكون بك ترجف.. ارم الكلابية وبلل جسمك بالنهر. وحدق جاسر الى أنفه الحاد الذي يحث المرء على دفع الآخر، إلقائه من فوق الهواشة كي يسبح ويعوم، أو يطوف قريباً من صخرة الهواشة المتداعية، المانحة من أخاديدها فرصة سحرية للنجاة. ومَن يا ترى يجرؤ الآن على القفز؟ سيعقل أذيال كلابيته، يعضها بأسنانه. ورأينا ساقيه تتراوحان في القفز من الهواشة الى الأمواج الراكضة اليها، فتساءلنا في سبيل الإنقاذ الأخير.
ارتسمت ابتسامة عريضة ملأت وجه سرحان، واذ كانت دوائر المياه الصغيرة تكبر وتزداد كثافة، استمر شعوره بالزهو، ذلك انه وضع راحته على صدره، واستنشق عبير الرطوبة المتبخر، وسمع قرقعة سوق هشة وتكسرات أوراق شجر يابسة، هكذا صعدت نفح الغار تفتح خياشيمه وتجلي ذهنه. فمنذ الصباح عارضتهم شاها، أو من الليلة الفائتة، قالت: يا أبو سرحان، المطر ما راح يترككم، اذا مو الصبح، الضحى او الظهر او العصر، راحت أيام النزه يا أبو سرحان. فأقبل ناحية إبنه متجهم الوجـه قائلاً: باكر، تسري الى خان الدواب وتنقي خروفين زينات، وتوصي الخبازة هسّع، تروح اليها وتقول لها على عجنتين، وتشوف الخيمة ايش لونها، ولا تنسى المي، يملي قربتين كبيرات، ونشوف ظنون أمـك الشاها يا سرحان. فقامت شاها، وقفت بين سرحان وزوجها، معتمدة بيديها على خاصرتها وقالت: شكون! ليش تحججت بالمطر يوم أمس ومنعت سرحان يروح مـع ربعـه للحـويـجة؟ فأجابها: ما زال .. ما زال صغيراً، اذا نزل المطر ما يتدبرون أمرهم، أما نحن.. فقاطعته شاها قائلة: صغير بعينك بس يا فرحان، ابنك زلمة، انشاء الله باكر ينزل المطر ونشوف من الصغير ومن الكبير. وحدث سرحان نفسه: أشوّفه، بس أريد أشوفه فعايل الصغير اللي ما معبي عينه، بس هو يحسب حاله زلمه! كل قطرة هاطلة .. وماذا ترسم؟
ينظر اليها .. لقد ارتجت المياه وأخذت الأخيلة تتمدد ثم تتلاشى، لقد ابتلع الماء كل شيء .. أين نحن .. ولا أحد على الضفة .. هذا المطر يبعث الظن باننا نغوص، نحن الثلاثة في القعر فلا أحد يرى الآخر.
الى أن توقف المطر، وصحت السماء. ثم فجأة ضحكوا، أولهم عبد الغني .. وثانيهم سرحان، عبّر عن النشوة بابتسامة رضى، استدار ليرى ما وراء جاسر، تيهان الهضاب والبراري، والى ناحية أخيه، يحدق الى الذي صعد الحويجة وغاب. أما جاسـر فكـان يمسـح البلل عن شفتيه، ويقول: حظنا سعيد لأننا.. فقال عبد الغني: وضعت أذيال كلابيتك في سروالك، وتأهبت للجري حتى شجرة التوت هذيك، لتحتمي بفنائها. وتقدم منه يمد بوزه مستطرداً: اذا خلص المطر، حدر المي، إرم الكلابية وبلل جسمك بالنهر.
وحينما وصلوا الحويجة مع الخروفين، عادت الطرادة إلى الضفة لتنتظر فرحان وأصحابه. راسية هناك، وحمزة المجدّل يشغل نفسه بالاستغراق في صيد السمك، رمى الصنارة في الماء، وجلس على مقدمة السفينة جاعلاً قدميه يعبثان بصورته المنعكسة في المياه. وكانت قصبة الصنارة تمر بين ساقيه فتميل مع مقدمة السفينة، وكان يرى من مكانه كيف تركوه وصعدوا الحويجة. وسأل نفسه، ألم يأتوا بعد؟ كل هذا الوقت والشمس وصلت الى ذاك المكان ولم يأتوا؟! يمكن أبو ناصح يأتي معهم، ولعلهم في الدير يترقبون وصوله كي ينطلقوا الى هنا. اذاً ينتظرونه، وكل شيء أصبح جاهزاً، العربة التي ستقلهم، أدواتهم، رباب مهيدي وناي عبد الرحيم، انهم ينتظرونه في متجر فرحان، بعد توصيته لسرحان: اذهب يا أبوي وجهزوا انت والأولاد كل الأمور. وأراد ان يرفع صوته: تعالوا، لم يبق الا أنتم، كل الأشياء حاضرة، لماذا تأخرتم؟ لماذا لا نستطيع سماع صوت أحدكم على طول الطريق الذي يبدأ حيث تنتهي البلدة، الذي يبدأ حيث نستطيع رؤيتكم: أربعة رجال أو خمسة في عربة تتحـول عن آخر درب في البلدة حتى تأخذ طريقها الشرقي نحو الحويجة.
في الحويجة، بعد كل ذلك، مساحة لا بأس بها، تنتصب فيها الخيمة. ويكون المنحدر نحو المياه بأرضه المطروقة بالصعود وبالنزول علامة للعابرين. سيأخذ حمزة سـمت ذلك الممر بين شوك العاقول المنتشر على طول سفح الحويجة، وهو معهم في المياه.
وجاسر الذي لم يرهم بعد، يجلس على المنحدر ويهجس: ألم يبلغ الأمر حد التيه .. نتيه ويتيهون؟ ربما نحن أو هم .. وربما سلكوا طريقاً آخر، وهم الآن هناك، في حويجة أخرى، استخدموا درباً مختلفاً، أتكون نزهتنا بهذا القدر، وضيعنا الوقت في العبور والانتظار؟ وكيف يتسنى لنا اطلاق الروح في الحويجة كما قالت هدلة صباح اليوم؟ الحويجة كلها أحراش وأشجار، ثم أين سرحان وعبد الغني؟ ولم يبق لهما أثر، إن كانوا قد ضاعوا كالآخرين؟
وتفقد نفسه، ثاب الى وعيه. فرش يده على ساقيه، مد الأخرى الى وجهه يقول: هذا أنا .. هذا أنا. أدار جذعه الى الخلف فرأى الخيمة في مكانها، داخلها قرب الماء الفارغة والمشارب وسفافيد اعتلاها السواد، ومخمر الخبز … بقايا الخروفين بالقرب من شجرة كبيرة. تلمس وجهه: ان أنفه الأشم جاء من ناحية أمه هدلة، وهو يشبه أنف شاها حين دقق فيه وجعل يقارنه مع أنف أمه، ولم يتصور أن انفه ليشابه أنف ابنها، فالأخير ذو أنف حاد يمط بوزه هكذا ويتقدم قائلاً: إرم نفسك في النهر، أو أنك تخاف وترتجف من برودة المياه. كان المنظر مشرفاً على الانتهاء، كـأن الجميع تحضروا لمغادرة النزه، في جميع الأنحية، ولم يبق سوى الشمس، أصيل وشفق أخير، وكل شيء كان يذهب الى الغروب. أنشعل النار؟ نضيء ظلمات الليالي الباردة – قالت هدلة: البس ثوب الصوف. لكنني أحب عبد الغني يا أمي، أحببته منذ هذه النزهة، ورأيت السفافيد وهي تحمل الى داخل الكيس الذي سيحوي الأطباق والأواني والقِرب. وكأن العربة عند الضفة – تقلنا الى البيت؟ نعم، كلنا سنركب، ولنقلة واحدة. كيف ستهدمون البيت، الخيمة؟ وفجأة انهارت ولبثت سحب غبار تحوم حولنا حتى غاب عني مشهد النزهة، وأحست تحت الشجرة ان الأرض تتقشر، وقدماي تميلان الى الانغراس في أديم منقشع عن سطح الأرض.


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alhawwaij.ahlamontada.com
 
صدى الزور البعيد... الفصل التاسع ...نزهة الحويجة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 19 )
» صدى الزور البعيد ... الفصل 17
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 18 )
» صدى الزور البعيد .. الفصل 13
» صدى الزور البعيد .. الفصل 12

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الحوايج :: الفئة الأولى :: منتدى الادب والثقافة-
انتقل الى: