الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
أخي الزائر الكريم,أهلا بك في منتدانا ,نحن سعداء بزيارتك ويشرفنا انضمامك الينا....وشكرا
الحوايج
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الحوايج

هذا الموقع مخصص لاخبار قرية الحوايج التابعة لناحية ذيبان -الميادين -دير الزور
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 صدى الزور البعيد .. الفصل الخامس .

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 631
تاريخ التسجيل : 01/12/2009

صدى الزور البعيد .. الفصل الخامس . Empty
مُساهمةموضوع: صدى الزور البعيد .. الفصل الخامس .   صدى الزور البعيد .. الفصل الخامس . Emptyالثلاثاء فبراير 07, 2012 4:21 am

صدى الزور البعيد .. الفصل الخامس .

مضى وقت طويل على كسر السدة. وكان حسن عبد الله الرحبي يرى ان تلك الحادثة بعيدة بقدرٍ يحدث أن ينساها. وإن أراد تذكر تلك الايام، أيام فورة اخيه الراحل محمد وكسر السدة، فانه لا يراها الا بصعوبة بالغة، تكاد تكون اياما من سراب أو حلم. حتى انه تساءل مرة ان كان يذكر وجه فاطمة؟ لعل حسن الرحبي لم يدقق كثيرا في معالم وجهها، كان يكتفي بلمحة خاطفة شاردة.
أفكار كثيرة شردت في عقله أيضاً، فالزمن تغير وتبدل. هل يذكر قصة الضبع الذي كان سيفترس كدرية؟ اذا اراد حسن الرحبي ان يرسم هذا الحدث ويعيده في خياله، فانه لا يلمح في ذاكرته الناضبة غير المقبرة والباب المتداعي لسور البلدة. تلك الأيام لم تكن من لحم ودم، كانت شيئاً آخر مختلف.
أما جدته وزنة الخضر، فراحت تخفف عنه همومه وكدرة كلما وسّعت نفسها. فإذا ذكر لها ان الولائم كانت ظاهرة شبه يومية ولا تحتاج الى تحضير طويل والى تحسب كما هي عليه الآن، تقول له: إن هذه الايام ستنتهي عما قريب، وسيعودون إلى ما كانوا عليه من قبل، والعلوة تصادف مثل هذه الظروف القاسية كل مدة من الزمن، هذا من عند رب العـالمين، ليختبر النفوس والقلوب. فالجدب الذي حل بأراضيهم، والمواشي العديدة المصادرة، والرجال الذين تركوا العلوة ورحلوا كجنود إلى سفر برلك، كل ذلك اختبار وامتحان من الله. لكن وزنة الخضر، لاحظت في الأيام الأخيرة، تغير حسن عما كانه سابقاً، فحفيدها تعرفه. راحت تلاحق حركاته وترصد سلوكه. رأته في عصر أحد الأيام في زاوية الغرفة منكمشا على نفسه يتنصت. لقد تحول الى هذه الصورة حين دخل متخفيا من عسكر النظام إلى بيت جدته وأمضى فيه الأيام الأولى. ولم يرغب أبوه عبد الله الرحبي له هذا المكان، كان يريد طرف البستان السفلي بالقرب من السور، المتواري عن الطريق والنهر، ظناً منه انه مكان آمن، بعيد عن النظر والشبهات. وسيحمل له سلل الطعام مع اخبار البلدة، والرجال الجدد الذين ساقهم العسكر الى النظام. وقالت هدلة: إنهم سيكشفون أمره في البستان، ابعثه الى جدته أفضل، تسكر عليه وعليها الباب. وهناك لن يجرؤ أحد على اقتحام بيت عايد الخضر. وفي الليل غادر حسن متخفياً، الى بيت جدته التي قالت في اليوم التالي للذي سألها، إنه سافر.. ما أدرى.. هو الى البوكمال، ما أدري.. هو الى عانة الى البصرة الله اعلم.
الليلة الأولى نامها الحفيد في الغرفة الوحيدة مع جدته والتي استيقظت باكرا كي تجهز له مكاناً في غرفة الحصان، في الحوش، حيث سيقضي أيامه الخمسة عشر الأخيرة، وذلك قبل ان يترك العلوة الى الابد. في غرفة حصان الهيلوان أمضى حسن الأيام والليالي. ونادراً ما كان يخرج الى الحوش، تحسباً من المباغتة، ومن عيون المراقبة التي لا تنزل عن الأسطحة، تترصد خبايا العلوة وأكنانها: في الصباح دخل أربعة رجال الى بيت صالح الساير، ظلوا الى الغداء، دخلوا ملثمين وخرجوا ملثمين. لم نتأكد من وجوههم. يبدوا أنهم حملوا أخباراً من خليل الذي اختفى فجأة، ذلك لأن صالح الساير وأهل البيت خرجوا وراءهم الى مسافة بعيدة، وكانت دلّة تلحّ من تلويحة يدها بالسلام على ابنها، وسمعناها تتضرع اليهم بالحفظ والسهر على صحته. لاحظنا ايضاً ونحن فوق الأسطحة، ان أكثر النساء عند الظهيرة يخرجن من غرفهن عاريات، يجرين بذعر في أرض الحوش، تتبعهم الكلمات الفاحشة والمقذعة، وتكررت هذه الحوادث في الأيام السبعة الأخيرة، حسن الرحبي، آخر ما سمعناه، انه مع خاله عايد الخضر في العراق عند وِلد الهذال.
وكان الليل يخيم على العلوة عندما تسربل حسن بالسواد وخرج من بيت أمه هدلة، وكانت عينا أخيه جاسر آخر من تتبعتاه، وقد ميزهما حسن في الظلام شهلاوين، يقرأان مصير الأيام الآتية، واتضح له ذلك فيما بعد عندما كان في بئر الهيلوان، كان غائبا في ذهوله فظنهم يقتحمون بيت عايد الخضر، ثم يكسرون باب خشب.
ودع أمه التي حاولت الاّ تنسى ملامح ابنها، فنداء خفي راح يغمرها: انها الفرصة الأخيرة ولن تتكرر ثانية. فجالت في وجهه، ابعدت عن ذاكرتها الصور الكثيرة لحياتها، كي تحل مكانها صورة وحيدة لابنها الذي لن يعود، حتى إنها ارتعبت حين حاولت ابعاد طيف محمد، ولقد رآها حسن تجفل في وجهه فزعة. وزعت نفسها فيه، ومن جديد وبالدهشة الأولى استطلعت ملامح ابنها حسن: عيناه كسفح العلوة في اصباح الربيع، جبهته الدقيقة وفمه الرقيق .. واستمعت الى نبض صدره فخمنت انه غناء النهر أيام الحصاد، عندما يوزع الماء على الرجال تحت الشمس، فيرفع النشوة الى رؤوسهم واللهفة الى قلوبهم. وكان فمه يرتعش ايضاً في وجنتيها الصافيتين، فهبط الصقيع الى قلبها قائلاً: محمد راح وهذا يروح، وباكر يا هدلة الدورة على جاسر. لكن زوجها أبعدها مخضلة بالدمع، قال لها: يا هدلة بيت جدته أمن واطمئنان، يا هدلة ايش بك كأنك تودعين رايح لليمن، بيتها قريب هناك.
كان بيت وزنة غرب العلوة، رفعه ابنها عايد الخضر بعيداً عن ماء الفيضان، وذلك بعد ان خرب النهر بيت جده ناصر الرحبي. ويطل البيت على خربة غزالة العجل التي قالت عنها وزنة: إن جنية النهر "حربة النجم" التهمت فيها غزالة اصطادها حمدان، تسللت ليلاً وسرقتها من داره، وقد علقت رأسها على متن الحائط، كدليل على فعلتها هذه. غير الخربة لا يوجد سوى فسحة مليئة بالآبار المتداعية، حفرها عايد الخضر أيام الصبا، ليعثر على الممر السري الذي حفره أجداده تحت الأرض بين العلوة وقلعة الرحبة.
هنالك كان حسن مختبئاً، عن أعين الصيادين، الذين يصطادون الرجال، فيقودوهم الى قوافل الجيوش المتغلغلة في العراق وآسيا الصغرى، لمحاربة الانكليز وأتباعهم. وأشار عبد الله انه سيبقى هناك الى ان يعود خاله عايد الخضر، فيأخذه معه بعيداً عن البلدان والمدن، إلى البادية، على معابر الطرق وقوافل التجارة. واختبأ حسن في الاسطبل القديم والذي أبدله عايد قبل مدة ذلك حين تنبه الى الحالة المتدنية التي ذهب اليها حصانه الهيلوان. بعد أن كان الحصان يستجيب لندائه البعيد والى صوته، راح مع الأيام يفقد هذه الإستجابة. صار مزاج الحصان يتغير ويتعكر، وقلّت شهيته للطعام، فاستشار أخاه مهيدي في ذلك، فاقترح عليه أن يغلق الاسطبل القديم ويبني بدلاً منه واحداً جديداً، لعله ينفعه ويعدل من مزاجه الحرن.
الاسطبل القديم مقام في طرف حوش وزنة. هناك الاسطبل بنوافذ صغيرة تستقبل نور الشمس الى معلف الهيلوان. وحين راح عايد يبني غرفة الهيلوان الجديدة، فكرت وزنة في تحويل الاسطبل القديم الى غرفة مؤونة إضافية، فنظفت أرضيته المليئة بالروث والتبن وحب الشعير، ثم أحضرت ( زنابيل ) الجبس والجص لطلاء حيطانه المتآكلة من ضربات حوافر الحصان الهائج. كذلك حاولت أن تزيل المعلف المقام في أرضية الاسطبل. حاولت ان تنتزع جذع المعلف بضربات المعول الهادئة والقوية، وحين أعيتها متانة الجذع انتقلت الى جوف المعلف، فكانت ضرباتها هناك أكثر حزماً وموجهة الى أطرافه الجانبية الضيقة، ولكنها، حين سئمت من استمرارها رفعت يدها عنه، وحاكمت ان وجود المعلف في غرفة المؤونة لن يضير شيئاً، فراحت تنظر عندها الى ضرورة وضع باب في مدخل المعلف الذي كان واسعاً عريضاً. وحين وضعه لها رداد الزغير، من الخشب المتين. كان منظر الباب الجديد يلح على وزنه بضرورة طلاء الجدران الخارجية بالملاط المحروق ذي اللون الترابي، وإغلاق نوافذ الشمس، ليضفي ذلك على الغرفة لوناً واحداً جديداً. وعندما انتهت من أعمال الترميم والطلاء انتظرت، قبل ان تودع فيها المخزون الفائض، انتظرت أياماً كي تألف العين الغرفة الجديدة.
وكان في الفجر ان استيقظت وزنة على صوت مناد مجهول، آت من جهة العلوة او من جهة أخرى لم تحددها. استدارت برأسها في وسط الحوش، لعلها تعين غرض المنادي الغامض، واذ فترت همتها واندهشت لانبلاج الفجر بسرعة عادت الى رشدها وعرفت ان ذلك كان من وسواس الشيخوخة والوحدة. كانت الشمس تبزغ في ذلك الوقت على باب الغرفة المتين، وعلى جدرانها المحروقة، فلم تُدِرْ بالاً الى طبيعة الباب الغريبة. حاولت ان تفتحه لترى ضياء الفجر داخل الغرفة، فجذبته من قبضته الحديدية بقوة، ولما استعصى على الفتح راحت تضغط بقدميها على الحائط، متعلقة بقبضة الباب الذي تماسك رويداً رويداً مع أطر المدخل والعتبة. وتساءلت ما إذا كان حامد الزغير لم يحسن تركيب الباب او انه نسيه مغلقاً بالرتاج، غير انها تذكرت مرات دخولها الى غرفة المؤونة بعد تركيبه وبعد ذهاب حامد. وحين همّت في محاولة أخيرة لفتحه، خرجت قبضته مع يدها، فجعلتها تنقذف مقعية الى الوراء في حالة زوغان.
وأخبرت عايد بما جرى، فأشار عليها ان الباب الذي ارادت فتحه بجهة معاكسة، لن ينفتح بهذه الطريقة، كان عليها ان تدفعه الى الأمام، دفعة خفيفة حتى ينفتح. ثم قام عايد من مكانه واتجه الى حيث الباب فرآه باهت اللون لا يختلف عن لون جدرانه، متشبثاً بملاط الحيطان وبعتبته. قال ضاحكاً، قبل ان يقترب اليه: كان عليك أن تأخذي الإذن من الهيلوان. أشار عايد أن تدفع الباب بهدوء، هكذا – فمر امامه سحر الاغنية الصامت: تتفتل على الهيلوان هيلوان الشكشكان– وقال عايد: هيكذان يا وزنة. لكن الباب كان صلبا أصم. فعاد قليلاً الى الخلف ثم اندفع برفق الى الأمام وقد أخفى دهشته. فدفعه مثل: هكذا .. وهكذا. فلم ينفتح الباب. قال عايد وقد جمدت الدماء في عروقه: اعوذ بالله، ما به الماخوذ ما ينفتح؟ فضربه بقوة، اندفع نحوه كريح عاتية فارتطم صوته: بم. ثم ايضا: بم! فلم ينفتح البـاب. في اليوم التالي، بعد ان منعته وزنة من هدم غرفة المؤونة بالمسحاة والمعول، قالت عمة عبد الله، عطشة الذياب، التي جاءت الى دار وزنة حين أخبرتها خود، قالت: وقفوا يا جماعة، عايد أبالك .. ترى الباب إنرصد يا عايد، الباب مرصود، ما تشوف لونه أخذ لون الحائط، الباب انرصد وتحول من مكانه، هذا اللي تدفعه حايط ما هو باب، وما يعرفه غير الهيلوان.
فامتطى ظهر الهيلوان كي يمر بهدوء من خلال الباب.
كان الاسطبل القديم، بيت المؤونة، خير مخبأ لحسن كما ظنت جدته وزنة الخضر. اليوم الأول في اسطبل الهيلوان كان غريبا موحشاً،لم يقدر على المطاوعة الا بعد رحيل النهار، عندما تجانس العالم. وبدأ حسن في بداية النهار التالي، حين هدأت نفسه واستقرت، يمهد الى نبذ الأشكال والبنى من حياته، فاعتمد على الظلام، الصوت والصدى. ابعد عنه حواس اللمس ...التجسد .. المعرفة .. وظن ان خير طريق يوصله الى جهة ما في هذه الظلمة الحالكة هو طريق الصوت والذاكرة. راح ينصت الى العالم الخارجي، والى أصواته المنداحة في الاسطبل. يرسم في خياله صور أصحابها، تعابيرهم ومقدار انفعالاتهم. كان يهجس ان صوت دبيب جدته وزنة في الغرفة الأخرى ينم عن ارتياحها وسرورها، فلا يخالجها ريب او شك. الهدوء ينبعث من حركتها، بانتقالها عبر الحوش والمطبخ الى الباب المطل على الدرب المليء بالحفر الصاعة الى العلوة. أما خربة غزالة النجم، فكانت محنة نهاية الليل، خالية من الحياة، جامدة، تعكس سراب العالم الآخر.
الليل الذي نامت فيه العلوة، راح يطمئن حسن الرحبي: هنالك فروق بينك وبينهم، هم من دون ذاكرة .. أوحى الليل لحسن: ان الناس عاجزون، لقد ضاعوا في ليلهم الأول فتاهوا، وراح المسافرون يهتدون بالنجوم الخابية. أشار له الليل: على سفح العلوة، جانب ضفة النهر، هناك الفرات يسيح على البيوت والأرواح. ثم روى له ايضا عن اخيه جاسر الرحبي: ستسمعه يبكي.. لأن لعبة الصميمة ثقيلة يا حسن– صميمة الصميمة، على النبي صلينا– فصاح في وجهه فواز ابن رداد الزغير: ايش بك .. اللعبة لك، يللا يا جاسر. ولا يقدر جاسر على القفز فوق ظهر ابن رداد الزغير، يمتعظ قائلا: انت ظهرك عال .. ما أقدر ...فيقول فواز، اذن عـلى أمك يا جاسر ياللا إركع. ولما أكمل رجال عبد الله بناء السدة، كان جاسر قريباً من أخيه محمد الذي لم يأكل كبقية الرجال تحت شجرة زايد، واقفاً جانب أخيه الصريع الذي رفع الحجر الأخير على سطح السدة. قال الليل لحسن: جاسر صار يبكي مثل الحرمة حين قذف الحنين أخاه محمد من فوق السدة الى شاطئ النهر. خشي ان أخاه قد التهمته جنية النهر، حربة النجم، خارت قواه من الرعب، وتمنى لو ان خاله عايد الخضر يهبط على فرسه من السماء او من السطح .. قال الليل: تمنى جاسر ان يصيح بصوت رجل: أنا أخوك يا هدلة. تمنى.... عايد الخضر، محمد .. دورك يا جاسر .. قال له الليل.. جاسر الرحبي يا حسن يخشى لعبة الصميمة .. أتسمع! يا للا: ينطلق أحد اللاعبين وقد عقص أذيال كلابيته الى وسطه، يندفع فيقفز فوق ظهر الصبي الراكع بحذر، وهو يصوّت (صميمة الصميمة ) ثم يتبعه التالي، يستند على ظهر الصبي، يشب صائحاً (على النبي صلينا) ويزعق آخر (صلينا ما بطينا) يا حسن:
صـميمـة الصـميمـة علـى النبي صليـنا
صلينـا مـا بطينـــا صلينا على الهيلـوان
هيلـوان الشـكـشكان شكشكـان البكارة
تتفتل علـى الهيـلـوان
منذ عصر اليوم الثاني ميز حسن الأصوات وترانيمها. فعلى أرض العلوة كان طبيخ الأصوات ناضجاً مطعماً. تنادي نجود العلي أختها هند: يا هند خفي رجلك وانزلي أملي من النهر. فيرد حسن، من مربطه خلف معلف الهيلوان: عدّلي حمل الدابة يا نجود وإني انزل. واهناً لا يصل الى مسامعها: عدّلي حمل الدابة يا نجود.
يصل الصوت، في العصر عندما تغيب الشمس، فيسمع حسن أصوات الذين يتبعون القطيع:… رنين أجراس في أعناق خراف وحشرجة موت في مسلخ ... وحسن يسمع ان العالم سوف يندثر. فترفع نجود العلي عقيرتها: تعالي راح تغيب الشمس .. ليش تبطئين؟ ثم تدمدم: وراء شجرة زايد .. ايش تسوّين يا هند، عجبي!

وتذكر الأيام الماضية: كان وجه فاطمة يرتفع فوق الجدار الفاصل بينهم وبين منزل أبيها تراك الناصر، فأجابها حسن، من وسط الحوش حين سألته عن محمد: لسه يا فاطمة، تراه ما قعد .. ما زال نائماً. مازال أخوه نائماً، منذ وقوعه عصر الجمعة الماضية. لسة يا فاطمة. فانزلقت عن المسند الذي رفع رأسها فوق الجدار، وسمع صوت ارتطام جسدها بالموت، الأرض القاسية، الصوت إرتطام طبل.
وراء معلف الحصان، في الزاوية اليمنى، كان حسن مضطجعاً، لا يغادر المكان إلا بتحرز، الغرفة ظلام..العالم الخارجي ينتظره ليسوقه (نظام ) الى الحرب. وتلك الأصوات التي ما زالت تتصاعد من بيوت أخرى، تبين ان أحد الشباب قد ساقه عسكر السلطان بعد قبضهم عليه مختبئاً في مكان ما. كان يسمع بمرارة، ما يصل الى أذنيه، غناء زخم الرجال المسوقين تجاه اليمين:
ما دام الطوب والكلّة بأثرنا يا أهلنا ما لكم بنا رجا.
لكن وزنة تعود لتطمئنه، انهم لن يعثروا عليه، فهو في مخبأ آمن، وكانت جدته قد لاحظت كيف راح ينفر من الطعام، فأوضحت له ان ابنها عايد لن يتأخر وسيأخذه بعيداً عن البلدة، بعيدا عن قلاقلها. وكان لسبب يجهله، يربط مصيره بمصير ابن دلة الغانم، خليل الساير، وذلك طيلة أيام سباته الستة عشر، يسأل وزنه عنه كل يوم بل كل مرة تحمل إليه الطعام والرجاء.
تقول له وزنة، إن ابن الساير في أمن واطمئنان، البارحة خَبِرت هدلة من خود ان مخبأه لا يطأه أحد سواها، وأعين العسكر بعيدة عنهم وغير منتبهة اليهم، يظنون ان خليل الساير خارج البلدة، تماماً كما هو شأنك: فأنت ( هسّع ) بنظرهم مع عايد الخضر، فوق حصان الهيلوان، وأضافت ان غرفة الاسطبل المرصودة تجعلهم غافلين، وهم على كل حال لن يستطيعوا الدخول من بابها. لكن حسن يرد عليها موكداً ان المرء اذا أغمض عينيه واحنى قامته فانه سيرى المدخل الحقيقي للاسطبل، دون محاولة لركوب الهيلوان. وعسكر السلطان كلهم عميان يا وزنة، ما تنفتح عينهم زين تحت شمسنا، يشوفون، يقدرون ان يروا باب الاسطبل.
وبين لحظة وأخرى يتوهم ان خاله عايد قد اقترب منهم، فوق ظهر حصانه، لا يبعد كثيراً، فهو على وشك الوصول، ان لم يصل في بداية الليل فإنه سيصل حتماً في نهايته، قبل الفجر، وظن ان صوت جري الحصان مسموع واضح. يلصق صِوان أذنه الى الحائط ويغمض عينيه. بعض الأحيان يزيد رهافة سمعه فيكتم أنفاسه، ويبقى ساكناً يترصد، لا تهزه الضربات يولدها صدره النازع.
وكانت جدته وزنة خائفة فزعة ان استمرت حالته كذلك، فتتقصد دخول الاسطبل كي تخرجه من شروده. ومرة قال لها حين دخلت عليه: انت يا وزنة سَكّرِي عيونك ترتاحين. فعرفت ان حفيدها مستغرق بعمق، لن يرده غير منظر الأفق الذي يمده النهار في السهوب الواسعة. وتمنت ان تجد الطريق الى ابنها عايد حتى يجيء بأسرع وقت فينقذه من الحال التي وصل اليها. ذهبت الى عبد الله وشرحت له ضرورة إخبار عايد اليوم لا غداً، لقد تأخر في رحلته هذه أكثر من المعتاد، فرحيله الى المفازة لم يكن يطول كما طال الآن، حتى إن أحداً من رجاله لم يأت ليقول لهم ان عايد اجتاز الحدود وتغلغل في العمق .. فقال لها عبد الله، إنه سأل عنه، وكل الذين سألهم أكدوا له انهم لم يروه منذ مدة طويلة.
وكبر قلقها، أصبحت تخشى الأيام القادمة بل الساعات والدقائق. صار الزمن ثقيلاً كحجر صفوان، رطباً كقاع بئر. وارتجفت من هذيانها بصورة عسكر السلطان الذين سيدخلون البيت ويقوضون أساسه بحثاً عن حسن، ولقد شعرت بهم من بعيد. اما حسن فكان يزيد التنصت حتى انه قال إن خاله عايد مرّ مع جماعته من جانب الرحبة، لم يدخلوا البلدة، كانوا في طريقهم الى حاجم بن مهيد الذي كان ينتظر رسالة من مكة.
ظهر اليوم الآخر، بينما كان حسن يرهف من مكانه، أحس برجع الصدى لهمسات راحت تتبع كدرية، بينما كانت تحمل الغداء بدلاً من خود الى خليل في زاوية البستان. كان يسمع صوت الهمس المكتـوم خلفها، فأراد حسن ان يقول بكل طاقة صوته، لينبه كدرية. في نفسـه قال: هم وراءك إحذري. في نفسه هز شجرة الرمان في بستان الساير فسقطت ثمرة كبيرة جانبها. ولم تنتبه كدرية، ظلت متجهة الى زاوية البستان. ورغم ان خود قالت لها صباح اليوم وقبل ان تذهب الى هدلة: إحذري وأنت تأخذين الطعام الى خليل لا يصيدك أحد يا كدرية. لكنها ظلت متجهة الى خليل متجاهلة من يتعقبها. وظن انها تحلم، فلم تنتبه الى سقوط الثمرة، هز الشجرة فلم توقظ المرأة. كان منظرها من الخلف مثل رجل عريض المنكبين، غزير الشعر، انها تحلم، فقرصت جديلتها بأصبعيها وضحكت بقوة.
وكان خليل ينتظرها بشوق، لمح طيفها المشع بين جذعان شجر الرمان والغرب والحور الطويلة، وكانت كملاك داخل الرواق الممتد الى الدرب الطويل، تعكس من ثناياها جمال الموت، قال لها: هدّيتي حيلي! فطوقته وجعلته يندس في صدرها الفرط.
وسألها خليل، بعد ان هدأ، فأوضحت له ان ما كان يسمعه في العتمة وما كان يراه من نظرات مستغرقة بينها وبين صالح الساير، ليست سوى ظنون. ولم تكن لتتصور ان الشكوك ستصل به يوماً الى ذلك الحد. وتذكرت انه استنزف آخر روح له خلف شجرة النخيل في بسـتان عبد الله، ذلك حين استند بخوف الى جسدها المرتعش.
لم يدم الأمر طويلاً، في المساء طوق رجال السلطان بيت صالح الساير، وأخذوه أمامهم الى مخبأ ابنه خليل، وقبل ان يخرج من فناء الحوش صرخت زوجته دلة الغانم، فملأ صوتها الجوبة ثم صعد الى العلوة، وتسلق بغصة جدران المئذنة فسمع حسن / السنين الطويلة القادمة من صدى الخيال، وكحلم في حياته، تشده رغبة فتمس صدره، ويهزه الحنين فيعودا معا الى الوراء، وكانت الأرض الرمادية تهز رأسها وتناديه: الألسنة الثمانية ستمد الضباب. فجذبته برطوبة وجذبها بتلهف، وكانت أغنية في مساء السماء، فوق الشمس الغاربة/ : ول اهرب.. يا بني .. يا خل لي لي لي ليل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alhawwaij.ahlamontada.com
 
صدى الزور البعيد .. الفصل الخامس .
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 19 )
» صدى الزور البعيد ... الفصل 17
» صدى الزور البعيد .. الفصل ( 18 )
» صدى الزور البعيد .. الفصل 13
» صدى الزور البعيد .. الفصل 12

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الحوايج :: الفئة الأولى :: منتدى الادب والثقافة-
انتقل الى: