كان ميشيل يعمل في مجال الدعاية الطبية ومن خلال عمله تعرف على الكثير من الأطباء وتعرف أيضا على الكثير من أنواع الأدوية والمخابر (المختبرات) حتى بات مرجعا لها عند الأطباء أنفسهم يسألونه عن الكبيرة والصغيرة .
وميشيل هذا تزوج من فتاة حسناء تدعى نجلاء يتمناها الكثير من الرجال زوجة وحتى صديقة ولم يكن ميشيل ينجو من تقرب أصدقائه الدائم لا حبا فيه إنما زلفى من هذه الزوجة الحسناء .
وهذه الحقيقة كانت مبعث ضيق وتأفف له على الدوام.
الأمر الذي جعل نجلاء في دائرة الشك والظن في كل حركاتها وسكناتها فإذا أرادت أن تخرج عليها أن تقول إلى أين ؟
وزاد الدلف عليها كلما أرادت أن تمسك بسماعة الهاتف سارع إلى رفع سماعة الجهاز الآخر وإذا عاد إلى المنزل في وقت غير متوقع ولم يجدها كان عليها أن تعطيه التفسير المرفق بالأدلة عن سبب الغياب.
بالمختصر تحولت حياة نجلاء الصبية الجميلة إلى ما يشبه الجحيم كما تحول زوجها ميشيل إلى رجل مهووس ولما تفاقم الأمر بينهما لم يجد أهل الزوجين إلا أن يسدوا إليهما النصيحة الأزلية بأن يسرعا في إنجاب الطفل الأول عل في مجيئه ما يشغل الطرفين على السواء ويمتن العلاقة بينهما.
مرت السنة الأولى ولم تحمل نجلاء ومرت السنة الثانية والزوجان في مسعى مستمر من طبيب إلى آخر والحقيقة الواضحة التي كانا يواجهانها في عيادات الأطباء والمشافي أن الزوجة عاقر ولا أمل في شفائها إطلاقا.
كان ميشيل وحيدا لأهله لم تنجب والدته سواه وكان هاجس الأسرة على الدوام أن يكون له ولد يحمل اسمه لهذا لم يكن مستبعدا أن يدور في أذهان الجميع أن يطلق ميشيل زوجته ليتزوج من سواها وهو حين ذهب إلى المحكمة الروحية وتقدم بالدعوى لم يتفاجئ أحد بما فعل.
الحكم عليه بالزواج المؤبد
في المحكمة الروحية لم يجد تفهما واضحا لرغبته لا سيما ليس في قوانينها ما يجيز لها أن تلغي الزواج فما يجمعه الله لا يفرقه إنسان وبعد جلسات طويلة ومحاكمات مرة مؤلمة صدر القرار من المحكمة الروحية برد الدعوى وإبقاء نجلاء زوجة لميشيل رغم أنفه رضي بها أم لم يرضى.
وما زاد الطين بلة أن المحكمة فرضت للزوجة نفقة مبالغا بها جدا استهلكت معظم دخله الشهري وبدأ ميشيل يئن ويئن تحت وطأة هذه الأحكام ولكن لا مناص له من الرضوخ لها صاغرا.
ذات يوم تبلغ ميشيل دعوة لحضور مؤتمر طبي لشركات الأدوية في مدينة اللاذقية يستمر يوما واحدا فقط.
حزم حقيبته وأبلغ زوجته أنه سيغيب ليلة واحدة فقط وسيعود في ضحى اليوم التالي ولم ينس ميشيل أن يتصل بأهله وأهل زوجته وبعضا من أصدقائه يعلمهم عن سفره المفاجئ وأن غيبته لن تتجاوز هذه الليلة وعند الباب أوصته زوجته أن يحضر معه بعضا من السمك البحري الطازج ما دامت العودة ستكون غدا أومأ برأسه بالإيجاب وركب سيارته وانطلق إلى اللاذقية.
الفاجعة في استقباله
في ضحى اليوم التالي كان ميشيل على مشارف دمشق في طريق العودة وفي ذهنه تدور شتى الأفكار وحين وصل إلى أول الشارع الذي يقع فيه منزله لفت نظره ذلك الجمع من الناس أمام البناء الذي يسكنه وقبل أن يترجل من السيارة لاحظ أن الكثير من هؤلاء ينتظر وصوله وبلهفة واضحة لا بل بقلق شديد وقبل أن يسأل عن الخطب كان البعض أسبق في بذل محاولاته في التخفيف من وطأة الخبر المشؤوم من خلال صيغ كلامية منمقة يعرفها الجميع.
لم يصدق ميشيل الناس كلام غير معقول البارحة ظهرا يترك زوجته في الدار على أحسن ما يرام ويعود اليوم ليجدها ميتة حاول البعض الإمساك بميشيل ومنعه من دخول الدار ليجنبوه الصدمة إلا أنه استطاع الإفلات واقتحم هذا الجمع من الناس وصار وسط الدار.
وفي وسط البيت وجد عددا من رجال المباحث منهمكين في جيئة وذهاب بعضهم ينزع عن مقابض الأبواب البصمات والكل يعمل بصمت ويتحدث بهمس.
وقف ميشيل لا يصدق ما حدث وما يدور أمام عينيه إن ما يراه حتما حلم مزعج وكئيب وقعت عيناه على رجل خرج على التو من غرفة الحمام فعرف أنه الطبيب الشرعي وعرف أن زوجته هناك وفي لحظة كالانفجار أطلق صيحة مدوية وركض إلى الحمام وارتمى على جسد زوجته يجهش بالبكاء ومصور الأدلة الجنائية مازال يلتقط صور الجثة بأوضاعها المختلفة.
تضمن تقرير المخبر الجنائي أن الوفاة كانت بسبب تعاطي المتوفاة السيانيد وهذه المادة تتصف بخاصتها السمية الشديدة حتى أنها غير موجودة في الطبيعة بشكلها الخام وإنما هي منتج مخبري ويكفي جزء بسيط من أجزاء الغرام الواحد لقتل إنسان في وزن سبعين كيلو غراما.
أسئلة دون أجوبة
الأسئلة التي كانت تبحث عن جواب هي من أين جاءت المغدورة بهذه المادة ؟ ولماذا تناولتها ؟
كان الجواب قاضي التحقيق على هذين السؤالين أنه مادام زوجها يعمل في مجال تجارة الأدوية فليس غريبا أن تكون يدها وصلت إلى العبوة بطريقة أو بأخرى أما لماذا تناولتها ؟
فالأغلب أنها حادثة فردية ولسبب لا يزال مجهولا وقد يكون عاطفيا وعلى ضوء هذا الاستنتاج اتجه قاضي التحقيق إلى حفظ الأوراق على أنها حادثة انتحار.
في مكتب المحامي
حين جاءني أهل الزوجة المتوفاة إلى مكتبي يطلعوني على شكوكهم في الزوج ميشيل لم يكن لديهم من الأدلة سوى حكايات عن الخلافات الزوجية الحادة والدعاوى التي كانت قائمة بينهما في المحكمة الروحية.
هذه الحكايا لا تصلح في حقيقة الأمر إلا للتنفيس عن أحقاد شخصية ولكن الذي استرعى انتباهي وتوقفت عنده ما جاء على لسان والدة المغدورة نجلاء وهي تقص علي ما جرى بينها وبين ابنتها صباح ذلك اليوم المشؤوم.
قالت حين اتصلت هاتفيا لأطمئن عليها استشعرت في حديثها مسحة من حزن وكآبة أرجعته إلى غياب زوجها عنها فرحت أطمئنها إلى أنه لا بد ومع مرور الزمن من أن تتحسن العلاقة بينهما ولكن نجلاء أخبرتني أن أعراضا صحية غريبة بدأت تنتابها منها التقيؤ والإسهال المفاجئ وطلبت مني أن أوفيها بأسرع ما يمكن.
وفعلا ارتدت الأم ثيابها على عجل وتوجهت إلى منزل ابنتها وحين وصولها فوجئت أن نجلاء لم تفتح لها الباب فاستلت من محفظتها النسخة الثانية من المفتاح التي تحتفظ بها عادة ودخلت ورأت ما رأت ماذا رأت الأم ؟
شاهدت ابنتها مرتمية على أرض الحمام وبقايا التقيؤ حول فمها وعلى الأرض سارعت الأم في محاولة لإسعافها ووجدت نجلاء جثة بلا حراك لأن الموت كان أسرع.
أمام قاضي التحقيق
في نقاش متوتر مع قاضي التحقيق أعلمته عما يدور في ذهني كمحام من تساؤلات منها إذا كانت القضية هي انتحار
فلماذا تخبر والدتها عما اعتراها من أعراض فالثابت في علم النفس القضائي والطب الشرعي أن المنتحر يكون عادة في حالة نفسية تفرض عليه البعد عن الآخرين.
ثم السؤال الأهم إذا كانت الزوجة قد تناولت السم بقصد الانتحار فأين هي العبوة الفارغة المفترض أن نجدها في الدار ؟
عندها نهض قاضي التحقيق من وراء طاولته وطلب مني أن أصطحبه إلى دار السيد ميشيل وفورا ودون إبطاء ثم أمسك بالهاتف واتصل مع إدارة المباحث.
وهناك في الدار كان في صحبة قاضي التحقيق عدد من رجال المباحث والمخبر الجنائي ومختار المحلة وآخرون بدؤوا جميعا في حملة البحث الدقيق عن عبوة السيانيد المنشودة.
لم يترك الرجال خزانة ولا درجا في غرفة النوم ولا الصالون وكل الغرف المتبقية حتى أنهم راحوا يفتشون في المطبخ وعلى السقيفة وفي كل مكان ولكن لم يعثروا على أي أثر لهذه العلبة اللعينة.
ماذا فعلت الصور الفوتوغرافية
وأنا أقف إلى جانب قاضي التحقيق أرقب الرجال وهم منهمكون في تفتيشهم عن علبة الدواء استأذنته وبكل هدوء وصمت أن يسمح لي بالاطلاع على الملف الذي كان يحمل كاتب الضبط فأومأ لكاتب الضبط بالإيجاب أمسكت الملف ورحت أقلبه ورقة..... ورقة.
إلى أن وصلت إلى مغلف يحوي صور جثة الزوجة المتوفاة أخرجت الصور وبدأت أتفحصها مليا واحدة تلو الأخرى إلى أن استوقفتني صورة ظهرت في مغسلة الحمام والرف الذي يعلوها كما بدا في الصورة على الرف علبه معجون أسنان.
في صورة أخرى شبيهة بالأولى بدت جثة الزوجة في وضع مغاير للأول قليلا وبدت معها مغسلة الحمام والرف ولكن في هذه الصورة لم تظهر علبة معجون الأسنان.
أين علبة معجون الأسنان؟
على بساطة وتفاهة هذه الملاحظة حول ماسورة معجون الأسنان كانت المفتاح للوصول إلى أسرار موت المجني عليها الزوجة نجلاء
الأسئلة التي طرحتها على قاضي التحقيق
متى اختفت ماسورة الأسنان؟
ثم لماذا اختفت وأخيرا من الذي أخفاها؟
لم يكن صعبا الاستنتاج أن ماسورة المعجون اختفت في الوقت الذي وصل فيه الزوج ميشيل من اللاذقية ودخل الدار مشدوها بما حدث وبما حل بزوجته العزيزة الذي ارتمى عليها مجهشا بالبكاء والنحيب حتى جاء البعض من الحضور وأنهضوه عنها إلى خارج الحمام
اختفاء الدليل كان الدليل
وبطلب من قاضي التحقيق وبناء على استدعاء من جهة الإدعاء الشخصي ضيقت المباحث الجنائية الخناق على ميشيل بالأسئلة الصعبة والدقيقة التي لم يكن يجد لها أجوبة قطعية فاضطر للاعتراف بالحقيقة.
لقد أحضر ماسورة معجون أسنان جديدة وفرغها من أسفلها ومزجها بمادة السيانيد وهي على شكل سائل بلوري ثم أعاد المزيج على الماسورة مستفيدا من الخاصة السمية التي تدخل جسم الإنسان عبر أغشية الفم المخاطية مهما كانت الكمية ضئيلة معتمدا على فرضية سلوك زوجته العفوي من أنها أول ما تبدأ به صباحا أن تدخل الحمام وتبدأ بتنظيف أسنانها بالمعجون.
بعد ثلاث سنوات من المحاكمات المريرة والمضينة صدر الحكم على ميشيل
في المحكمة ...... وقف محامي الادعاء بصوته المجلجل يسرد مسار التحقيق ويكشف للمحكمة أساليب الزوج المخادع واستطاع المحامي أن يقيم الدليل على أن نية القتل متوفرة.
أمام مطالبة جهة الادعاء الشخصي لم يبق أمام جهة الدفاع سوى أن تطلب الرحمة والشفقة.
ويوم النطق بالحكم ...... نادى الرئيس على المتهم الذي كان يقبع في قفص الحديدي
وبدا يتلو القرار :
باسم الشعب قررت المحكمة ما يلي :
1- تجريم المتهم بجناية قتل زوجته عمدا وعن سبق الإصرار والتصميم
2- والحكم عليه بالإعدام
قرارا و جاهيا قابلا للطعن عن طريق النقض صدر وافهم علنا.